نوزاد جعدان
كان المطر يهطل بغزارة و الشوارع خالية إلا من شخص واحد مازال يمشي تحت قطرات المطر غير آبه بها, متنقلا من حاوية إلى أخرى باحثا عن فتات الطعام, كان شخصا رث الثياب, طويل الذقن ,ذا عينين خجلتين ذابلتين ووجه تبدو عليه علائم ضربات السنين .
إنه رامي جميع أهالي الحي يعرفونه من مشيته المترنحة ويده الدائمة في الجيب ووقفته الطويلة في الشارع, و يعرفون شخصا آخر هي منيرة الفتاة الشقراء المشهورة بعينيها الخضراوين النجلاوين والقامة الممشوقة ، والهاربة من القرية لتضيع في زحمة المدينة و ليصبح جسدها لقمة سائغة للضالين.
كان رامي دائم الحلم ببيت يسكن فيه و يغريه منظر مكون من أربعة أضلاع فقد سئم من عمق منظور الشارع و من حجم البنايات العالية و ملّ من عواميد الكهرباء المنتشرة في أرجاء الشارع التي تعرقل نومه ,فلم يكن يملك غطاء يلتحف به سوى السماء و لا وسادة أو كتفا يضع رأسه عليها إلا أكياس القمامة و لا شمعة تنير دربه إلا ضوء القمر.
تأمل رامي في تلك الليلة منظر القمر بعد توقف المطر و اقترب منه كلب ضال فبدأ رامي يحاورهُ، فلا أحد يسمع رامي أو حتى ينظر إليه فهو نكرة جوكر, بادره بالسؤال:هيه ..أيها الكلب بعد السؤال عن صحتك و عن أخبارك؟! ..يبدو لي إننا أنا وأنت بلا مأوى و كلانا مشردان و لكن هل تعلم ما هو الفرق الوحيد بيني و بينك ..ها؟.. يرد عليه الكلب بالنباح حسنا , أنا سأجاوبك الفرق الوحيد هو أنا إنسان و أنت حيوان، و يتابع.. أتعلم إنّ كليّنا يوميا يأكل الركلات و الضربات و لكن الفرق الوحيد بيني و بينك إنه لدي شعور و أنت خال ٍ من الشعور، فأنا إنسان و أنت حيوان ..
وبدا الحوار مطولا إلى أن خرج رجل من بيت منيرة و نظر إلى رامي وتابع سيره، فتأملت منيرة منظر رامي و لم يفارقها لحظة حتى عندما حاولت النوم, وخطر لها هاجس في كيفية تبييض سمعتها أمام الناس, ففي طريقها إلى السوق يلتم حولها أهل الحارة و يشتموها فقد ساءت سمعتها إلى درجة لا تحتمل , فكم من النساء طلقوا بسببها ,وكم من عائلاتٍ فرّق شملها من تحت رأسها..
و خطرت لمنيرة خطة , فقامت بإشعال الأنوار و فتحت النافذة لتجد رامي غارقا في النوم ، فنادته و لم يرد عليها فخرجت و حركته إلى أن استيقظ رامي بخوف و ذعر, مبادرا إياها السؤال: ماذا تريدين مني ؟ .. فردت عليه منيرة بإجابة أنثوية مظهرة مفاتنها بفستانها القرمزي الشفاف :تعال و نم في الداخل, تردد رامي و أحتار ماسحا عينيه مستغربا فلعله منام كالأحلام الكثيرة التي كان يراها ,ثم أجاب : ماذا أفعل بالداخل يا سيدتي؟!..
قبضت منيرة على معصمه و سحبته إلى بيتها و علامات الاستفهام تدور من حول رامي, فهي في الماضي كانت تشمئز منه و عندما تنظر إليه ترمقه بأسفل عينيها و إذ بها الآن تدخله إلى بيتها و تطعمه و تشربه الشاي الساخن و تجلب له صحون الفواكه والحلويات إلى أن شعر بالتخمة..
فهو يأكل ولا يفقه شيئا من الموضوع ، و لم يلتمس حنانا كالذي التمسه اليوم من منيرة و بعدها اصطحبته إلى غرفة النوم وقامت بتقييد قدميه و يديه لتمارس الجنس معه و جلبت سكينا و جرحت بعض المناطق من جسمها ومزقت ثيابها و رامي المسكين يبتسم ابتسامة المغفلين ..
قامت بعدها بالاتصال بشرطة النجدة و هرعت الشرطة إلى منزلها و دُق الباب , ففتحت منيرة الباب ليسألها الشرطي بلهجة غليظة:أين هو ذاك السافل ؟..
فأجابته: هاهو هناك لقد اغتصبني و بقدرة القادر استطعت التخلص من بين أنيابه إلا أنه بعد فوات الأوان ,فلقد فقدت عذريتي.. و تتابع باكيةً و الدموع تنزل من عينيها لترسم خطوطا على وجنتيها.
دخل الشرطي و العصا بيده إلى خلوة رامي فرفرفت رموشه .. و قبض عليه الشرطي عاريا تماما و اصطحبه إلى مركز الشرطة بالإضافة إلى منيرة.
سارت السيارة إلى مركز الشرطة و كأنها تكتب حياة جديدة لرامي و منيرة اللذين ينظران إلى الشارع كل في اتجاه، ووصلت السيارة إلى المخفر, فقام الضابط بالتحقيق بلهجة غاضبة: أنت أيها النحيل القذر هل قمت باغتصابها ؟ .. ابتلع رامي ريقه و ولأول مرة فكر بعد فترة جمود و سكون و كيف أنه في حال الاعتراف فإنه سيدخل السجن و آه ..ما أجمل السجن!.. فالطعام مجاني و الاستحمام أسبوعي عدا أنه سيلتحف غطاء و ينام بين أربعة جدران و يرتاح من صوت مازن العاشق السكير المعروف في الحارة الذي يعرقل نوم رامي, بينما كان يفكر قاطعه الضابط بصرخة: ما بك أيها القذر هل أنت أم لا ؟ ..فنظر رامي بقوة و لأول مرة و بإجابة ملء الفم و بكل قوة: نعم أنا الذي اغتصبها ,و نظر الضابط إلى منيرة بنظرة شفقة مخاطبا إياها: تعالي إلى هنا أيتها المسكينة اجلسي .. كم عانيت من تحت أنياب هذا الوحش! .
أمر الضابط السّجان باصطحاب رامي إلى السجن و الابتسامة لا تفارق وجهه فهو في قمة سعادته سينام لأول مرة بدون ضجيج و دون إزعاج من أحد و لتتابع منيرة مسيرتها في وصولها إلى شهادة حسن سلوك و إنها كانت عذراء بريئة إلى أن جاء المتشرد القذر رامي وقام باغتصابها و ما الكلام الدائر حولها إلا إشاعات مغرضة و مجحفة بحقها , فغادرت منيرة إلى حارة أخرى و تركت عملها السابق لتتزوج من رجل غني, بينما تابع رامي مشواره في السجن عاشقا لظلامه هاربا من سواد القلوب.