بسم الله الرحمن الرحيم
خسِــر كــــل شـــيء
كنا نفعل كل شيء سوية ، نركض خلف كرة القدم ، نلعب لعبة الشرطة و اللصوص ، كنا دائماً معاً في كل شيء.
عندما تريد أمي أن تجدني ، أكون هناك في بيته ، و عندما تبحث أمه عنه تجده هنا في بيتنا ،
أما عندما يبحثوا عننا الأمهات و لا يجدوننا الأثنان ، فأعلم بأننا ندبر مصيبة ما !!
فقد إشتكى العم أحمد صاحب البقالة الوحيدة في الحي مننا كثيراً ، لأننا كنا دائماً ما نضع مفرقعة قرب سريره ، يكون حينها يريد أخذ غفوة
و ما إن يغمض عيناه ، حتى إذا ضربنا المفرقعات حول رجليه ، و ركض مفزوعاً ، يرانا نضحك من بعيد، و ينوح بالشكوى لأهلنا !
كنا أطفالاً بعقول مجنونة ، لا يهمنا سوى اللعب و الضحك، حتى أتى ذلك اليوم الذي رأيناها فيه !
كانت خارجة من المنزل المجاور لنا ، منزل العم أدهم ، من أغنى أغنياء الحي ،خرجت بشعرها الطويل ، عيونها الواسعة ، و وجهها الأبيض
كنا نراقبها كلما سنحت لنا الفرصة ، نتبعها خطوة بخطوة.
- هل لاحظت دموع تلك الفتاة التي تتلألأ بين عينيها؟
- نعم لاحظتُ ذلك. لكن ما السبب يا ترى ؟
- ربما يضربونها ؟؟
- لا أظن ؟
التفتت الفتاة عندما سمعت ذلك الهمس خلفها ، كانت تجلس قبالة النهر ، و وجهها النضر يرتسم فوق الماء يتمايل كما تتمايل الأغصان عند هبوب الرياح.
كان خلفها ذلك البستان الأخضر ، المليء بالزهور الملونة ، و الأشجار الوارفة ، و كنا نحن فوق تلك الشجرة العملاقة ،
هي أكبر شجرة في البستان ، من خلالها يمكننا رؤية حينا كاملاً ، يكون المشهد رائعاً عند المغيب ، و الشمس على وشك السقوط مودعة لنا ببط ء
معلنة قدوم الليل ، برياحه و هدؤه ، بسكونه و صمته ، بنجومه و قمره.
- لماذا يفعل أبي ذلك ، ما الذي يدفعه لتلك الفعلة ، ربما كنا فقراء ، لكننا لسنا في حاجة الى المال بهذه الطريقة !
ربما تكون أمي مريضة تحتاج الى الدواء كل أسبوع ، لكن هذا أيضاً ليس دافعاً لما فعله.
---------------
كان العم أدهم يعمل شرطياً بقسم الجمارك في المطار ، عمل لأكثر من سبع سنوات ، لكن ما زال مرتبه كما هو ضئيلاً لا يكفي أسرة مكونة من خمسة أفراد ،
فتاة و توأمين صغار ، زوجته و هو ، خصوصاً أن تكاليف المعيشة تزداد يوماً عن يوم ، و المرتب الشهري لا يكفي.
زوجته مصابة بسرطان الكبد ، اصيبت به بعد ولادتها للتوأمين ، و كان علاجها مكلفاً جداً.
إسودت الدنيا في وجه العم أدهم ، هو يعلم أن ذلك المرتب البسيط لن يفعل شيئاً ، فالعلاج و الفحوصات مكلفة
و لا يوجد دخلٌ آخر ، لا حوافز ، و لا أجور أضافية !!
سمع اللواء محمود بما حدث لزوجة العم أدهم ، أصر على زيارة زوجته في المستشفى ،
و دفع تكاليف العلاج ، شكره العم أدهم قائلاً :" شكراً حضرة اللواء ، لقد أحرجتني ."
- لا تقل ذلك ، جميعنا أحياناً نمر بتلك الظروف ، يمكنك إعتبارها ديناً.
- لكن كيف أرد الدين ، وأنا لا أملك شيئاً.
- الأمر بسيط ، لدي عملٌ لك إذا قمت به ستكون بذلك قد رددت الدين ، بل و أكثر منه كذلك.
- و ما هو ذلك العمل ؟
- لدي شحنة قادمة من ماليزيا ، محملة ببضاعة أريد التجارة بها ، لكنك تعلم الإجراءات المفروضة على مثلك تلك الشحنات
أحتاج مساعدتك ، لتمريرها بسرعة دون فحص ، و لك ما تريد من مال ، بيت ، و علاجات زوجتك.
-لكن ..........
- لكن ، ماذا ؟ .. لا تقل لي بأنك خائفاً ، أنت الضابط الوحيد الذي يمكنه فعل ذلك ، كل ما عليك فعله وضع إمضائك على ورقة ستجدها غداً على مكتبك .
- لكن .......
- لا تقل شيئاً ، غداً سأعرف ردك ..
----------------
حاولنا الإقتراب أكثر من تلك الفتاة ، لم تكن تحرك ساكناً ، كنا فقط نستمع الى نحيبها الهاديء من وقت ٍ لآخر
قال بهمس :" ما رأيك أن ننزل من هذه الشجرة و نذهب للتحدث أليها ؟ "
- مجنونٌ أنت ْ .. هذه إبنة شرطي.
- وماذا في ذلك ؟
- يعني بأنه ليس العم أحمد الذي يثرثر و يمضي في حاله .. يعني بأنه يمكنه فعل الكثير لنا ، دعها و حالها.
- لكن ألا ترى كيف حالتها ربما يمكننا المساعدة.
- حسناً خطرت لي فكرة تعال معي .
-------------
أشرقت الشمس بضيائها ، و أطلقت أشعتها في كل مكان ، معلنة يوماً جديد ، لكنه اليوم الوحيد لم يكن يريد العم أدهم قدومه
كان يفكر طيلة المساء ، عما سيفعله غداً ، و ما سيفعله حضرة اللواء إذا لم يتم توقيع تلك الورقة.
كما أنه لا يكن في مثل ذلك المأذق من قبل !!
أرتدي ملابسه و لم يكف عن التفكير في تلك الورقة ، و إتجه الى المكتب و عند وصوله
أعطاه أحدهم مظروفاً قال له بأن ذلك المظروف قد وصله من مكتب اللواء محمود
امتلأ جبين العم أدهم بالعرق ، فتح ذلك المظروف ببطء، وجد عليه رزمة من المال و خطاب مكتوب ٌ عليه :
بسم الله الرحمن الرحيم
تحية طيبة
عندما تقرأ هذا الخطاب ، هذا يعني بأنك قد إستلمت مبلغاً يقدر بخمسة آلاف جنيه و لا تخف هناك أضعاف هذا المبلغ قادمٌ أليك.
فقد عليك إمضاء الورقة التي ستجدها مع تلك الأوراق الموجودة في درجك ،
لا تنسى بأنها شحنة مسجلة بأسم رجل صيني اسمه "سونغ".
أتمنى الشفاء لزوجتك.
محمود
------------------------
إقتربت من النهر حاملاً سنارتي الصغيرة ، جلست على مسافة تبعدني مترين عن تلك الفتاة.
أطلقت التحية من على البعد ، و قذفت بطُعمي ناحية النهر.
جلست أترقب النهر ، كنت أحاول أن أرى وجه الفتاة ، لكن كان علي أن لا أحاول إخافتها ، فأنظر الى الأمام مرة أخرى.
فجأة شيئاً ما شد سنارتي .. لم أستطع مقاومته ، إنتبهت هي ، السنارة تشدني إتجاه المياه
تصرخ :" اترك السنارة .. أتركها ".
كان وجهها جميلاً ، سرحت لبرهة لكنني صحوت عندما شعرت أنها إنتبهت
- لا لن أتركها .. ساُري هذه السمكة من أنا.
أتجه ناحية النهر شيئاً فشيئاً .. تلبسني المياه .. أفقد أنفاسي .. أصرخ ، تصرخ هي أيضاً
- ساعدوه .. ساعدوه
يركض أحدهم يقفز في المياه ، بعد برهة نخرج سوية ، أهمس و أقول
- غبي .. لقد تأخرت.
- آسف .. لكن كنت أخلع ثيابي حتى لا تبتل، و يبتسم.
قالت :" هل أنتما بخير ؟"
قلنا سوية :" الحمد لله "
- اعتقدت للحظة أنك مُتْ
سألتها :" ما هو أسمك ِ ؟ .. و ما بك ِ تجلسين هنا وحيدة ؟ "
- أنا ليلى
- أهلاً ليلى .. أنا علي و هذا سمير.
- أهلاً بكما .. انا آتي للنهر هنا كثيراً .. لأنني أحب الجلوس أمامه.
- أجل .. لاحظنا ذلك ، أقصد الجلوس أمام النهر شيءٌ جميل ، يشعرك بالنشوة.
لم ينطق سمير بأي كلمة .. كان مشدوهاً بذلك الوجه ، والشعر الساكن بسواد الليل يتطاير في كل مكان
- هل أنت بخير .. سمير ؟
لم ينتبه سمير بأنها تتحدث أليه ، كان تائهاً .. حتى لكزه علي.
- آآآ الحمد لله .. بخير. أود أن أسألك ِ .. لماذا ألقي القبض على والدك ِ قبل عدة أيام ؟؟
و إنهمرت الدموع بين عيني ليلى.
---------------------
أخرج العم أدهم تلك الأوراق من درج المكتب ، و أصبح يبحث عن سونغ بين تلك الأسماء التي تظهر هنا و هناك.
حتى ظهر له "سونغ جي سون دوان .. شحنة قادمة من ماليزيا ...... الخ ".
سند ظهره على الكرسي ، شبك يديه مع بعضهما البعض ،
تذكر يوم قال لأبنته:" ربما نولد فقراء ، لكننا أغنياء بقلوبنا ، و حبنا لبعضنا البعض ، و وفائنا لعائلاتنا.
حينما نرى إبتسامتك ننسى أننا فقراء ، حينما أرى سعادة والدتك ِ لا يهمني شيء .. أتمنى أن تعي هذا الدرس جيداً يا أبنتي
لأن من يبيع ضميره خسر كل شيء "
ثم قال بصوت ٍ عالي و الدموع بين عينيه :" خسر كل شيء ".
----------------
لم نكن نعلم لا أنا و لا عليٌ بأن والد ليلى جمركي، كنا نعلم فقط بأنه مجرد شرطي.
يومها كان الحي كله يتحدث عن تلك السيارة التي توقفت أمام منزل ليلى ، مليئة برجال الشرطة، الذين ألقوا القبض على العم أدهم.
الذي طأطأ رأسه أمام أهل حيه و أطلقت سيارات الشرطة صفيرها.
و بعدها لم يصبح هناك حديث بالحي سوى العم أدهم الغني ، الثري .. الذي لم يعد يملك شيئاً !!