الحملة التي اطلقت أخيراً للفصل بين الأخوين رحباني، عاصي ومنصور ولعزل المطربة فيروز وهدم هذا «الثالوث» الفني الكبير، ما زالت مستمرة، وقد نحت منحى فاضحاً عندما رفضت إدارة كازينو لبنان أن تقدم المطربة الكبيرة فيروز على مسرح الكازينو عرضاً لإحدى المسرحيات الرحبانية القديمة في صيغة جديدة. هذا المقال وهو استعادة للأحداث التي حصلت ولتفاصيل الحملة التي ما زالت قائمة، كتبه أفراد من جمعية «فيروزيون» التي انطلقت قبل فترة، جامعة عدداً من المثقفين والشباب الذين يهوون صوت فيروز وأغنياتها. والمقال هذا مدعم ببعض الأحكام القضائية والقانونية الصادرة تباعاً.
يتلعثم القلم أحياناً أمام الواقع، فيلوذ بالخيال. لنتخيّل إذاً المشهد الآتي: فيروز ماثلة أمام القاضي. القاضي يتهمها بسرقة فنّ الأخوين رحباني المجسَّد بصوتها. في هذه القصة أمران يرفضهما عالم الخيال لسببَيْن مختلفَيْن. الأول لأنه حقيقيّ، ويتمثل بالدعوى وبالمدّعي (منصور الرحباني أولاً، وورثته بعد رحيله). والثاني لأنه سرياليّ: فيروز وراء القضبان!
كمّ مرّة سألنا لماذا تبخِل فيروز في إطلالاتها علينا؟ الحقيقة أتتنا مدوّيةً من خلف الصمت. كالغضب الساطع أتت. كدخول يسوع الناصري إلى هيكل التجارة والأحقاد والمكائد.
من الدعاوى المالية وبلاغات الاستحضار إلى الإنذارات بالملاحقة القضائية، والاتهامات بمخالفة قانون حماية الملكية الفكرية والأدبية، وصولاً إلى قرار وزارة التربية بتشكيل لجنة لتخليد «فن وأدب» منصور الرحباني والعائلة الرحبانية في المناهج التربوية... أحداث كثيرة وتفاصيل مثيرة، تفضح خطة مدروسة لتقويض السيدة فيروز وتهميش العمود الفقري في الحالة الرحبانية، أي عاصي وعائلته. من الوقائع ما بات متداولاً ومعروفاً، لكن أهمها لا يزال سرياً للغاية.
بالنسبة إلى الناس، برز الخلاف العائلي بعد رحيل منصور. وجرى الحديث في الإعلام عن استغيابه لشن حملة عليه من قِبل عائلة عاصي، بدأت بالبيان الذي أصدرته ريما الرحباني اعتراضاً على القرار الوزاري الآنف الذكر. لكن في الواقع المشكلة بدأت مع منصور، ثم تفاقمت إثر رحيله... و «المؤامرة مستمرّة.
ففي الوقت الذي كانت فيروز تتحدى تعب السنين وتجهد في التمرين والتسجيل، وزياد يعمل في إعادة التوزيع الموسيقي لمسرحية «صحّ النوم»، كان منصور الرحباني وأولاده يضعون، على ما يبدو، اللمسات الأخيرة على سياسةٍ جديدة/ قديمة للتعاطي مع وريثة عاصي الرحباني. ناهيكم عن حملة التطاول الممنهجة على فيروز في الصحافة خلال الفترة الأخيرة (جهاد فاضل وديانا وهبه صديقة عائلة منصور، وغيرهما طبعاً)، والتي سعت الى تشويه الحقائق بغية إظهار فيروز على أنها شخصية «شريرة» في سجلها تصرفات رخيصة ومجحفة بحق عائلة منصور (مثل التصريح بأن دي في دي حفلات دبي تمّ سحبه من السوق بسبب عدم دفع فيروز المستحقات المترتبة لمنصور عن هذا الإصدار). وكل ذلك يُنسَج ويُظهَّر إلى العلن في ظلّ التعويل الضمنيّ على الصمت المعهود عند فيروز وأولادها.
نبدأ كرونولوجياً بسرد الأحداث نسبةً إلى الوثائق التي تثبت صحتها. نحن إذاً أمام ثلاث مراحل: قبل وفاة منصور، إثر وفاة منصور (القرار الوزاري)، وبعد وفاة منصور. في 2 نيسان 2008، طلب المدّعي، الأستاذ منصور الرحباني، من المحكمة الابتدائية الثانية في المتن (مالية)، تبليغ المدّعى عليها، السيدة نهاد حداد، المعروفة باسمها الفنيّ «فيروز»، استحضاراً في الدعوى المالية المقامة من قِبل الأول ضدّ فيروز. نوع الدعوى مالية. وقيمتها مئة ألف دولار أميركي. والسبب: «بدون الحصول على إذن أحد مؤلفي «صحّ النوم» الأستاذ منصور الرحباني، أقدمت المدّعى عليها على تقديم هذه المسرحية في دمشق على مرّات عدة (...) بالإضافة إلى حفلتين غنائيتين أحيتهما المدّعى عليها في البحرين من كلمات وألحان الأخوين رحباني (...) من دون أن تبادر هذه الأخيرة إلى الاتصال بالمدّعي (...) كي تحصل على الترخيص منه لعرض المسرحية والأغاني، أو لكي تعرض عليه حقوقه المشروعة كمؤلف وملحن هذه المسرحية، فضلاً عن أنها متمادية في تأدية إنتاج الأخوين رحباني، أي المرحوم عاصي والأستاذ منصور بدون الاهتمام في المحافظة على حقوق هذا الأخير المشروعة، الأمر الذي حمل المدّعي على أن يتقدّم بهذه الدعوى». في الدعوى، أضيفت فقرات عن قانون حماية الملكية الفكرية والأدبية، ورَدَ فيه التضليل التالي: «لصاحب حقّ المؤلف وحده الحق في استغلال العمل مادياً وله في سبيل ذلك الحق الحصري في إجازة أو منع أداء العمل (...)». وهنا يحدّد المدّعي بدل العطل والضرر موقتاً بمبلغ مئة ألف دولار أميركي بالإضافة إلى «الفائدة القانونية من تاريخ تقديم الدعوى حتى الدفع الفعلي والرسوم والمصارفات والعطل والضرر والأتعاب». لن نتبع هنا لدحض هذه الدعوى القنوات الأخلاقية والتاريخية الفنية. بمعنى أن نقول: حتى لو كان هذا محقاً من الناحية القانونية، هل يجوز ملاحقة فيروز في جرم أداء أعمالها؟ مستندين إلى التأويل التالي: حتى لو أن فيروز ليست هي صاحبة العمل نصاً ولحناً، لها حق التصرّف به لمجرد أدائها العمل بصيغته الأصلية ولولاها لما وصل إلى الناس، وبالتالي فالناس تحضر الحفلات لمجرّد وجود فيروز على المسرح. هذا صحيح. لكن، ما دام دحض النص بالنص ممكناً، لما اللجوء إلى منطق الأخلاق المعرَّض للتأويل؟! إذاً، دعوى منصور ترتكز على حقه الحصري في إجازة أو منع أداء العمل موضوع الدعوى («صحّ النوم» وأغاني الأخوين رحباني). لكن الأخوين رحباني مسجلان في «جمعية المؤلفين والملحين وناشري الموسيقى» (ساسيم)، ومركزها باريس، في 13 كانون الأول 1963. ويقول قانون هذه الجمعية حرفياً: أولاً، على لسان المنتسبين إليها (طلب الانتساب): «أقبل الانضمام للجمعية بدون أي قيد طبقاً لقانونها الأساسي (...)، ولها وحدها وفي نطاق أغراضها الحق في الترخيص أو منع الأداء العلني والتسجيل الميكانيكي لجميع مصنفاتي بمجرد تأليفي لها»... ألخ. وثانياً، في قانونها: «تتمتع (ساسيم) (...) بصلاحية القيام بما يلي: إجازة أو منع التأديات العمومية للأعمال الفنية المختلفة وإعطاء التراخيص بهذه التأديات». هذا لجهة طلب الترخيص بأداء المؤلفات. أما بالنسبة إلى المستحقات التي تعود إلى مؤلف العمل، فالقانون واضحٌ أيضاً، وترعاه وزارة الثقافة اللبنانية. وقد صدر في هذا الخصوص مراسيم نافذة وقرارات تنظم كيفية تأسيس وعمل جمعيات وشركات الإدارة الجماعية لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة، والتي تؤكد باختصار أن الجمعية المذكورة مخوّلة وحدها إعطاء التراخيص في الأداء العلني، وكذلك تحصيل وتوزيع العائدات على أعضائها والشركاء فيها. إذاً، لا يحق لمنصور وأولاده مطالبة فيروز بترخيص منهم لعرض أعمال الأخوين رحباني، كما لا يحق لهم مطالبتها بالعائدات المترتبة لهم جرّاء أداء هذه الأعمال. إذاً، علاقتهم مع (ساسيم) في الحالتين.»
كما نعرف، عُرضَت «صحّ النوم» في الـ «بيال» بعد إلغاء العروض في مهرجانات بعلبك جرّاء عدوان تموز، وذلك قبل العروض في دمشق وحفلة البحرين. غير أن منصور الرحباني لم يعترض على عروض بيروت لسببَيْن. الأول، هو اعتقاد الأخير أن رحلة «صحّ النوم» ستنتهي في بيروت. وبالتالي تفاجأ في انتقال العروض إلى بعض الدول العربية. والثاني، مرتبط بالأول، ولكن على شكل آلية معتمدة من منصور. هكذا، عندما ورد خبر دعوة فيروز لتقديم «صحّ النوم» في الشام إلى منصور وأولاده، عرض الأخيرون على المنظمين أعمالهم بديلاً عن زيارة فيروز. ولمّا رفض القيمون، باشر منصور بإرسال إنذار إليهم (وإلى فيروز)، يحذرهم من استقبال فيروز التي لم تحصل على الترخيص (غير القانوني أساساً) من مؤلف العمل، أي منصور الرحباني أحد الأخوين. هذه الآلية اعتمدها منصور في دمشق والشارقة والبحرين.
أضِف كذلك إلى تلك الآلية في نسختها الدمشقية الميزات الخاصة الآتية:
الأولى. بعد رفض العرض «المنصوري» من قِبل المنظمين، والذي ولّد حكماً إنذاراً فورياً، لم يتأخر منصور من تسجيل «موقفٍ شريفٍ» يتلقفه محبّو فيروز كوقفة تاريخية إلى جانبها. إذ بادر إلى الدفاع عن حريتها في الذهاب متى تشاء إلى الشام (!)، رداً على الانتقاد الشهير لزيارتها العاصمة السورية من جانب أعداء النظام السوري السابقين في حركة 14 آذار اللبنانية.
الثانية. في 28 كانون الثاني (يناير) 2008، وبالتزامن مع الإنذارات المتعلقة بعروض «صحّ النوم» في دمشق، دعا منصور إلى حفل توقيع إصدار منفرد من قبله لمجموعاتٍ شعرية تتضمن مجلداً خاصاً بعنوان «قصائد مغناة» (للأخوين رحباني) من دون علم أو استئذان أو مشاركة أي من ورثة عاصي.
الثالثة. حاول منصور الرحباني عرقلة العروض الدمشقية عبْر منْع الممثل أنطوان كرباج (علماً أن دوره محوريّ في «صحّ النوم») بالسفر مع فيروز، وذلك بسبب مشاركة الأخير بمسرحية «زنوبيا». هكذا أرسل رسالة عبر الفاكس إلى محامي فيروز، مكتوبة بخط اليد وموقعة بتاريخ 12 كانون الأول 2007، تقول (نوردها حرفياً): «نظراً لتضارب مواعيدنا في الحفلات لن أسمح لانطوان كرباج اللذي (الذي) يمثل دوراً هاماً في زنوبيا، قلت لن أسمح له بالذهاب مع صح النوم الى سوريا، الرجاء الاتصال إذا كنت ترغب بالتفاهم.»
تلا إذاً فشل الإنذار الدمشقي (والبحريني أيضاً)، الدعوى المالية التي عرضنا تفاصيلها أعلاه. لكن فيروز «لم تتعلّم». فقبلت دعوة تقديم «صحّ النوم» في إمارة الشارقة. فانطلقت آلية منصور تلقائياً: عرض باستبدال «صحّ النوم» بأحد أعماله فأتى رفض المنظمين لينقل الآلية إلى مرحلة الإنذار، وهذه المرّة عبْر مكتب محاماة إماراتي (كون لأبناء منصور علاقات تجارية في دبي). موضوع الإنذار (16 نيسان 2008): سرقة الحقوق الفكرية المتعلقة بمسرحية «صحّ النوم». وفيه «(...) علماً أنه لا يحق لها (فيروز) إطلاقاً الانفراد في التصرف بهذه الملكية الفكرية دون مراجعة موكلنا (منصور) (... ولمّا كان كذا وكذا)، ولما كان فعلها هذا يشكّل إخلالاً وخرقاً لقانون إتحادي صادر في دولة الإمارات العربية، وسيعرّضها لعقوبتي الحبس والغرامة، لذلك وبوكالتنا عن السيد منصور حنا الرحباني، جئنا بموجب هذا الكتاب ننذر موكلتكم بضرورة الامتناع عن عرض مسرحية «صحّ النوم» في إمارة الشارقة في الإمارات العربية المتحدة وفي أية دولة أخرى، وإلا سنضطر آسفين إلى مراجعة السلطات المختصة وملاحقتها قانونياً، واتخاذ بحقها كافة الإجراءات القانونية والتدابير اللازمة والتعميم عنها أمام الشرطة وسلطات الموانئ والمطارات ومنعها من الدخول أراضي دولة الإمارات العربية المتحدة والإدعاء عليها جزائياً وتوقيفها، كذلك استصدار قرار أمام قاضي الأمور المستعجلة يقضي بتوقيف العرض وإلغائه والمطالبة أمام المحاكم المدنية بالتعويض عن الأضرار والخسائر التي ألحقتها بموكلنا». غير أن فيروز ذهبت إلى الشارقة وقدّمت «صحّ النوم». فحاكِم إمارة الشارقة، ولدى معرفته بالموضوع، أخذ المسألة على عاتقه وحذّر من التعرّض للضيفة العزيزة من قبل الشرطة، وأمّن لها وللفرقة الحماية الخاصة، من باب الطائرة في مطار دبي إلى مكان إقامتها وأثناء العروض وحتى انتهاء الزيارة.
بعد انتصار الشارقة على منصور، جاءت هزيمة كازينو لبنان أمام ورثته بعد رحيله. إذ رفضت الشركة المذكورة تقديم فيروز مسرحية غنائية للأخوين رحباني على مسارحها، عاملةً بالرسالة التي وجّهها ورثة منصور إلى إدارتها (14 تموز 2009) والتي يطلبون فيها «الامتناع عن عرض أي من أعمال الأخوين رحباني على أي من مسارح كازينو لبنان دون الحصول على موافقة جميع ورثة الأخوين رحباني»، وراضخةً كذلك إلى الإنذار الذي تلا الرسالة، والموجّه أيضاً إلى فيروز، وفيه بالإضافة إلى التفاصيل القانونية (المزيّفة) والتهديدات بالملاحقة القضائية: «نحذر السيدة نهاد حدّاد المعروفة باسم الفنانة «فيروز» من عرض أي مسرحية أو أي عمل للأخوين رحباني بدون موافقة ورثة المرحوم منصور الرحباني». ليست المشكلة في عدم تحدّي الكازينو للتهديدات الباطلة فحسب، بل أيضاً في تنازل هذه الشركة عن حقٍ يمنحها إياه عقدٌ سنويّ موقعٌ مع (ساسيم) يجيز للكازينو استغلال أي من الأعمال الفنية موضوع دليلها الفني (أيّ، أعمال المؤلفين المنتسبين، والأخوين رحباني من بينهم) في صالاته ومسارحه، عن طريق الأداء العلني المباشر... ألخ.
وأكثر من ذلك، أنتج كازينو لبنان مسرحية «صيف 840» (الموقّعة باسم منصور على رغم إنجازها قبل رحيل عاصي) التي قدمها أولاد منصور على مسرحه. علماً أن فيروز كانت تحضّر لعرض مسرحية «يعيش يعيش». يا للخسارة المزدوجة!
من جهتها، ردّت فيروز على المعنيّين (عبر محاميها)، فذكّرت بالقوانين التي ترعى المسألة من كل جوانبها. وشدّدت على أن لا حقّ لمنصور وورثته في منعها من تقديم أعمال الأخوين رحباني بحسب قانون (ساسيم). كما ذكّرت الكازينو (27 تموز 2009) بالعقد الموقع بينه وبين الشركة المذكورة. وأنذرت أيضاً (ساسيم) 7 كانون الثاني 2010 على تدخلها عن سوء نية لدى كازينو لبنان (بإيعاز من أولاد منصور) لدفعه على النكول عن الاتفاق معها على رغم الترخيص السنوي الممنوح لكازينو لبنان لاستغلال جميع الأعمال الفنية بما فيها أعمال الأخوين رحباني. وهذا الكتاب، أرسِلَت نسخاً منه إلى وزارتَيْ الثقافة (الوصية على عمل ساسيم) ، والاقتصاد والتجارة. وفي 17 آذار 2010 اعترضت فيروز لدى وزير الثقافة الحالي، سليم وردة، على أداء (ساسيم) في ما يخص مهمتَيْها الأساسيتَيْن: منح التراخيص من جهة وتحصيل الحقوق والعائدات وتوزيعها على الفنانين المنتسبين إليها. كما شرحت تفاصيل المشكلة مع شركة الكازينو. ولكن، لم يحرّك أحدٌ ساكناً حتى اللحظة.
هذا في ما يخص الحفلات والعروض المسرحية. أما بالنسبة إلى الإصدارات المسجلة، فقد حصل أن وقّع منصور الرحباني على إجازة خطية لإصدار دي في دي يحتوي على تسجيلات حية من عدّة حفلات كانت قد أحيتها فيروز في دبي. ما إن توزّع العمل في الأسواق اللبنانية، حتى استغل منصور العطلة القضائية (صيف 2008) وطلب بسحبه من المحلات بحجة أن فيروز لم تطلب إذنه، وعندما أبرزت الإجازة الخطية الموقعة منه نكر إمضاءه. هنا انتقلت المسألة إلى المحكمة التي أكدت صحة الإجازة، وعاد ال دي في دي الى السوق.
استناداً إلى كل ما تقدّم يمكن تسجيل الملاحظات والخروج بالاستنتاجات الآتية:
أولاً، إن عدم شرعية الفرض على فيروز موافقة منصور وورثته لأداء أعمال الأخوين رحباني ومطالبتها بالمستحقات المترتبة للشريك في التأليف قبل العرض (علماً أن هذا الموجب يقع عادة على المنتجين وليس المؤدين وذلك بعد إحياء الحفل وليس قبله وبواسطة (ساسيم) وليس بواسطة كل ملحن أو مؤلف على حِدة) يحيلنا منطقياً إلى التالي: إمّا أنّ منصور وأولاده يعتبرون ضمناً أن فيروز (وزياد؟) تسيء إلى العمل الفنيّ. إمّا أنّ في الأمر محاولة لفرض هالة/سلطة المؤلف الثاني (منصور) لتغليب نسبة مساهمته الفنيّة في إبداع العمل الفنيّ، على شريكه التاريخي (عاصي) ممثلاً بوريثته (فيروز). إمّا الاثنين معاً.
ثانياً، إذا اعتبرنا أن مطالب منصور وورثته من بعده مشروعة، ألا يفرض ذلك منطقياً وقانونياً طلب منصور وورثته الإذن من وريثة عاصي قبل استخدام أي من أعمال الرحابنة؟ وأيضاً، ألا يطبّق هذا المنطق على من يريد أداء هذه الأعمال من أي فنان؟ لكن في الواقع، يبدو أن هذا القانون لا يطبّق إلا على صاحبة الحق المعنوي والفني والتاريخي. ماذا عن عشرات المغنيين والمغنيات الذي يجنون أرباحاً من أغنيات الرحابنة من دون طلب إذن، لا فيروز ولا منصور وورثته؟ وكذلك جميع العروض المباحة للغير من طرف أولاد منصور ومن دون العودة الى ورثة عاصي؟ ماذا عن التعدّيات المشابهة التي ترتبط بمشاريع فنية يرعاها ورثة منصور (مثل «الفرسان الأربعة» برعاية غدي الرحباني، وحفلاتهم «الرحبانية» في لبنان والخارج. والعرض الغنائي الذي قدّمته الأخوات طنب على مسرح قصر المؤتمرات، في برنامج يتضمن أغاني الأخوين رحباني بتوزيع غدي أيضاً)؟ ماذا عن الألحان التي «شرشحها» منصور في منح حق استخدامها لأغراض إعلانية رخيصة (دعاية شامبو للأطفال/ «شتي يا دنيي»، وغيرها)؟ هل يترتب على فيروز طلب إذن غناء «شتي يا دنيي»، ودفع نصف مردود أدائها لهذه الأغنية، تماماً كما تستأذن استخدام اللحن شركة إعلان مقابل مبلغٍ زهيد؟ ماذا عن عرض مسرحية «المحطة» في بعبدا، وأيضاً خلال مهرجانات البترون السنة الماضية (حيث جرى تكريم أولاد منصور على المسرح)؟ ماذا عن فيلم «سيلينا» (المأخوذ عن مسرحية «هالة والملك») حيث قام منصور وغدي الرحباني بوضع السيناريو وزجّا فيه أغانٍ جديدة؟ مع التذكير هنا بأنه لمّا وصل الفيلم إلى مرحلة التنفيذ أصدر منصور بياناً (مجلة «الشبكة» عدد 8 كانون الأول 2008) يستنكر فيه التشويه الحاصل لعمل الأخوين، على رغم أنه هو مَن وضع السيناريو (مع ابنه غدي) وقبض منفرداً أتعاباً باهظة من المنتج نادر الأتاسي. لكنه سرعان ما تراجع عن موقفه، وأوكل إلى غدي مهمة إرسال الدعوات لحضور الفيلم، كما جلس الأخير في الصفوف الأمامية خلال العرض الأول. فما هو مقدار المبلغ الذي قبضه لتمرير «التشويه» (بحسب وصفه).
هل هكذا نكافئ فيروز ونحترم تعبها خلال أكثر من ستين عاماً لنشر فن الأخوين رحباني؟
ثالثاً، لا يمكن إلقاء اللوم على أولاد منصور ولا يجوز تبرئتهم. فالوقائع تدلّ من جهة إلى أن منصور هو «مؤسس» هذا الأسلوب في التعامل مع فيروز، وذلك منذ وفاة عاصي. ومن جهة ثانية، واستناداً إلى مسار الأحداث بعد رحيل منصور، نلاحظ أن الأولاد تابعوا المسيرة على نهج والدهم. وهذا ما يؤكد أنهم كانوا متواطئين مع الوالد، بما أنه كان بإمكانهم إرساء نمط تعامل مختلف مع فيروز بعد رحيل رأس العائلة، ولم يفعلوا.
كل ما تقدّم عنوانه: (ساسيم) لا تقوم بعملها. لا بل تقوم بممارسات غير قانونية مسايرة لأولاد منصور الذين يدعمونها إعلامياً وقد أسّسوا مع هنري زغيب المقرّب منهم مجلس المؤلف اللبناني لدعم نشاطاتها في ظل الانتقاد الذي تتعرض له من قبل جمعية المؤلفين اللبنانية. ومنصور وورثته يستغلون الوضع للسيطرة على فيروز وتحجيم حضورها وللضغط على من يفكّر في دعوتها إلى أي ظهور فنيّ، وإنذاره وتهديده.
أغنيات محفورة في الوجدان تجمع الأخوين وصوت السيدة
ثمة قضية مستقلة في الشكل عما أسلفنا، لكنها مرتبطة في الجوهر بـ«المخطط الكبير»، وهي قرار وزارة التربية القاضي بـ «تشكيل لجنة لتخليد فن وأدب منصور الرحباني والعائلة الرحبانية في المناهج التربوية». الناس تعرف بعض تداعيات هذه القضية. لذا، سنذكر بها في شكل مختصر ونحلّل النوايا المبيّتة في عملية التزوير التاريخية هذه، ونكشف ما لم يظهر إلى العلن بعد.
في 12 شباط 2009، وبعد حوالى شهر من رحيل منصور الرحباني، صدر قرار وزارة التربية الشهير، وفي مادته الأولى: «تشكيل لجنة لتخليد فن وأدب منصور الرحباني والعائلة الرحبانية في المناهج والأنشطة التربوية». بداية، تتألف هذه اللجنة من ممثلين عن وزارة التربية ووزارة الثقافة والجامعات الخاصة والرسمية، ألخ. ومن أحد أفراد عائلة الرحباني أو أكثر. إذاً، لا وجودٌ حتى لاسم «الأخوين رحباني» (وهو الاسم الفنّي الذي يذيّل الجزء الأكبر من الأعمال موضوع القرار). ولا وجودٌ لممثل عن عائلة عاصي، ولا ذِكرٌ لاسم عاصي ولا فيروز. كما لم يُدعَ أحدٌ من ورثة عاصي الرحباني لاستشارته قبل صدور القرار الوزاري. هكذا شاركت كل الأطراف المعنية وغير المعنية، باستثناء المعني الأول. وهكذا تمّ تكريم فنّ كل العائلة الرحبانية إلا صانعي مجد هذه المدرسة في مرحلة الأخوين، أي عاصي وفيروز، وفي المرحلة التالية، أي فيروز وزياد (نذكر زياد لأنه تم ذكر العائلة الرحبانية في القرار.
بعد ذلك، تم تعديل القرار مرة أولى. وهذا التعديل ليس ذاك الذي تم تداوله والذي يعني مسألة سقوط اسم عاصي سهواً! فما تنبّه المعنيون أولاً إلى سقوطه سهواً ليس عاصي، بل أسماء أربعة أعضاء إضافيين (24 شباط 2009)، ليس بينهم من يمثل ورثة عاصي الرحباني!
هنا يأتي بيان ريما للاحتجاج على تغييب عاصي عن مرسوم وزارة التربية، الذي نشرته في 19 أيار 2009، أي بعد أكثر من شهرين من صدور القرار المذكور، وبعد حوالي شهرين من تعديله الأوّل! مع الإشارة إلى أن المجلة التربوية التي نشرت القرار لم تصل إلى ريما إلا عن طريق الصدفة في 17 أيار2009.
أما التعديل الثاني، والذي يطاول اسم اللجنة فجاء في 19 أيار 2009. أي في التاريخ ذاته لصدور بيان ريما. وجاء فيه: «تشكيل لجنة لتخليد فن وأدب الأخوين رحباني ومنصور الرحباني بعد غياب عاصي الكبير (...)». ردّ يومها أولاد منصور على بيان ريما، متهمينها بنشر البيان على رغم معرفتها بالتعديل المذكور، مدافعين عن حسن نية الوزارة التي صحّحت الالتباس الوارد في النسخة الأولى من القرار. هنا تجدر الإشارة إلى أن ريما بعثت البيان عبر الفاكس إلى الوكالة الوطنية في اليوم ذاته الذي تم فيه التعديل الأخير لقرار وزارة التربية. لكن الوكالة لم تنشره، متذرعة بحجة أن الفاكس لم يصلها. لكن ما يفضح هذه الأكذوبة، هو فاكس وصل إلى ريما من غدي الرحباني، مكتوب بخط اليد وموقّع بتاريخ 19 أيار 2009، بهدف ثنيها عن نشر البيان وفضح «الالتباس» الذي شاب القرار الوزاري الأول. يطلب الأخير من ريما «الاطلاع على مشروع القرار القاضي بتعديل القرار السابق الذي عُدّل وصُحّح ليتم توقيعه من قبلكم (...)». فالفاكس الذي وصل إلى الوكالة الوطنية، جيّرته الأخيرة فوراً، عبر الفاكس أيضاً، إلى منزل منصور (بعدما نكرت تلقّيه!) وذلك لحثّ أولاده على التحرك لمنع خروج الفضيحة إلى العلن.
قبل الدخول في تفنيد النيات في ما يخص القرار الأول وتعديله، نشير إلى الرسالة التي وجّهتها فيروز عبر محاميها (21 أيار 2009) إلى كل من وزيرة التربية والتعليم العالي آنذاك، بهية الحريري، ووزير الثقافة تمّام سلام. وفيها اعتراض على إغفال اسم عاصي في القرار الأول وتذويبه في العائلة الرحبانية وعدم استشارة فيروز (كوريثة لعاصي الرحباني) حول تشكيل اللجنة المذكورة وكيفية عملها. غير أن الرسالتين بقيتا من دون جواب.
إذاً بالعودة إلى القرار الوزاري وتعديله. حُكِيَ عن خطأ في ما يخص هذا القرار ولكن لم يُشَر أبداً إلى نوعية الخطأ. فالأخطاء أنواع وفئات. هناك الخطأ المطبعي، واللغوي، والطفيف، والمقصود، وذو النوايا المبيّتة، والجوهري... ففي أي خانة نضع سقوط (اسم) عاصي الرحباني سهواً؟! في أي خانة نضع استدراك الخطأ بعد شهرين؟! في أي خانة نضع استدراك إضافة أربعة أعضاء إلى اللجنة قبل الانتباه أن عاصي غائب؟!
أما بالنسبة إلى تصحيح الخطأ، فقيل إنه قد تمّ تصحيحه فوراً (كما صرّح أبناء منصور في الإعلام). ولكن فوراً تعني لغوياً: تماماً بعد كذا. المشكلة ليست في الخطأ ولا بطبيعته ولا بتصحيحه فحسب، بل في تحديد الـ «كذا». بمعنى آخر، لقد تمّ، فعلاً، تصحيح الخطأ. وذلك، فعلاً، فوراً. لكن السؤال المهم هو: فور ماذا؟
فور ارتكابه؟ لو كان هذا صحيحاً، لتمّ تصحيح الخطأ بعد ثوانٍ من ارتكابه، وبالتالي تنتفي النية السيئة من توصيفه، ويكون بالتالي من النوع اللغوي أو الإنشائي، أي له علاقة بصياغة الجملة التي لم تبدُ قادرة على التعبير عن المعنى المراد. والمعنى المراد في هذه الحال يعني النية البديهية والرغبة الصادقة في تكريم عاصي ومنصور.
فور الإدراك بأنه فادح؟ إذا كان هذا صحيحاً فتلك مصيبة. لكن الواقع هو غير ذلك. إنه المصيبة الأكبر. والمشكلة أخطر وأعقد وأدقّ مما تمّ الإيحاء به من نوايا حسنة في إضافة اسم عاصي. فقد تم تدارك الخطأ بعد فشل المحاولة الخبيثة الأولى، والتي تمّت تسميتها بـ «سقط سهواً» إثر بيان ريما. فالنص صيغ على ما يبدو بالطرق التي تموّه تغييب عاصي إلى أقصى حدّ متاح قبل الفضيحة. وكان فرصة ذهبية لبدء مخطط أولاد منصور: إلغاء عاصي من الأخوين في مرحلة أولى، وإلغاء الأخوين من الرحابنة لاحقاً.
والسؤال: هل منصور يوازي الأخوين؟ إذا كان كذلك، لما إذاً زَجّ اسم الأخوين رحباني في القرار؟ أليس في ذلك إهانة لرجلِ عظيم اسمه منصور، يوازي نتاجه منفرداً نتاج شخصين؟ لذا، تفضلوا كرّموا إما منصور وحده (ولا مشكلة في عدم ذكر عاصي ولا الأخوين) إما الأخوين وحدهما. هذا ما طالبت به ريما الرحباني وزارة التربية منذ صدور القرار. ولهذا الغرض أيضاً أتت زيارة ريما وزير الثقافة الحالي حسن منيمنة، حيث عرضت له تفاصيل الموضوع وطلبت تصحيح الخطأ. غير أن الوزير نكر وصول فاكس الاستنكار الأول، ولم يحرك ساكناً لغاية اليوم، ما يعني أن المخطط لا يزال يسير بأمان (الله والدولة).
في كل ذلك نسمع صوتاً يقول: «أدخِلوا فيروز إلى السجن. حاكموها بجرم سرقة تعبها. لكن، حاكموها أيضاً بجرم سرقة قلوب الناس. استعيدوا لنا منها قلوبنا، كي يكون فينا ما يغفر لكم فعلتكم.
هذا ليس سوى ما يمكن معالجته بالمنطق وتبيانه بالوقائع والحجج القانونية والمنطقية. أما الأهم من ذلك، فهو الحقيقة (بأحرفٍ كبيرة). تلك التي لا يمكن إثباتها بالأدوات والأساليب الاجتماعية التي صنعها البشر (القوانين، الوثائق، الأعراف،...). الذبذبات الخفية التي تتبادلها قلوب الناس لاإراديّاً، ستتولى المهمة الكبرى. وهذا متروكٌ للزمن («الحقيقة مع الوقت»، كما تنهي فيروز حكايتها في شريط «كانت حكاية»). فالموسيقى نوتات على ورق. يمكن لمسها ورؤيتها وقراءتها. أما جمالها أو بشاعتها فأحدهما هنا. أمامنا. في النوتات. على هذه الأوراق أو تلك. لكن أيهما وأين؟ أين الجمال؟ كيف نراه إلا بأذُنَيْ القلب؟ هل هناك طريقة أخرى لالتقاطه؟ نعم. ثمة صورة أخرى للجمال. أصغر مِن أن تراها عجرفة الكبار. وأصفى مِن أن تخطئها براءة الأطفال. هي صورة الجمال في مرحلة تكوينه الجنينية. هي ذاك الإخلاص المُشِعّ من عينيّ رجلٍ، في صورة بالأسود والأبيض. صورةٌ عتيقة تجمع أخوَين. هي أيضاً صمتُ ألوانٍ يزيّنها وجهُ سيدة. سيدةٌ بات صوتها ملك زهور الحقول وجدران المنازل. فمَن يسكتها؟!