بدا الشتاءُ مُبّكراً هذا العام . هطل المطر بغزارة و سقى الأرض المشاع ، خيوطاً ذات وقع ٍ رتيّب على صدر الصخر المتهدّل على السفح
الجبليّ المُطلّ على السهول ، يبدأ صوته القادم من المجهول كإطلالة بث المذياع في افتتاح برامجه اليوميّة ، مشوشّاً مشوّهاً لا مُبال ٍ ثم
ينبرُ الصوتُ الآلي " صباح الخير يا وطن ! "
ترك الفلاحون منازلهم المصنوعة من الطيّن المشويّ ، سمعوا و هم يدرجون على الطريق الموحل صوت المزاريب تئّن ، ألتفت شيخٌ عجوز
إلى السماء ، و نتأت من بين شفتيّه المتحطبتيّن كلمة " يا رب " . كانوا جموعاً يحملون المعاول و الفؤوس و أكياساً من الخيّش . و للحقيقة
بَدت أذرعهم أقصر مما هي عليه و لون الجلد ممتقعاً أقرب للأرجواني و شفاهاً مقطوعة مزمومّة تنفكّ عن أسنان ٍ تصطّك من شدّة البرد .
صاح أحدهم متألمّاً " آه من برد يقصّ المسمار ! " . سأل صبي أبيه : " كيف يقصّ البرد ، الذي لا نراه ، المسمار ؟! "
لم يردّ الوالد بقي صامتاً كالآخرين .