صوت الساعة الرتيب ذاته يخترق مسامعي ليل نهار بلا رحمة ولا هوادة ، تقع عيناي على
الجدران متوسلة إليها بأن تأتِ بلونٍ مغاير، أو لمحة مختلفة ولو للحظة ولكنّها تأبى إلّا
السخرية منّي ، نهضت ببطئٍ ونظرت في المرآة فما وجدت سوى بقايا وجه لفتاة لم يتجاوز عمرها
الثلاثين ولكن ما بالها تبدو وقد جاوزت الخمسين بوجهٍ مُتعب وعينين غائرتين كل ما يميزهما
شقاء وألم يكادان يخترقان زجاج المرآه !
أشحت بوجهي هربا من هذا المنظر الكئيب فقد بتّ أكره النظر للمرآه التي لا تعكس سوى
صورة قبيحة لكائنة حيّة لا تتميّز عن الأموات سوى بنبضات خافتة متتالية داخل معصم هزيل
نالت الدنيا من صحّته ورونقه ما بين شظف عيش ، وذكريات لا تفارق المخيّلة فأصبحت
تأكل الوجدان أكلا كوحش ضارٍ يلتهم فريسته حتى الرمق الأخير !
ارتديت معطفي وهرعت للخروج إلى الشرفة فقد شعرت بالاختناق من جدران الغرفة الكئيبة
مستجيرة بنسمة قد تشعر بالأسى على حالي فتفكّر بالعروج للحظة من أمامي ! .
لم يختلف المشهد كثيرا فالشوارع كما هي مليئة بالمتسوّلين والباعة الجائلين ، وتلاميذ تحمل حقائب
تكاد تقسم الظهور وفي أعينهم نظرة متعبة تبحث عمّن يريحهم من هذا العذاب الجاثم فوق ظهورهم ،
وشاب واقف على الناصية يغازل كل فتاة مارّة بوقاحة زادتها ما ترتديه تلك الفتيات ، وصراخ
يتعالى من بيت الجيران في مشهد يتكرر كلّ يوم ، بل كلّ ساعةٍ !
ورغم كل هذه الضوضاء ما زلت أحسّ بالخواء ، وما زلت أشعر بفراغ في قلبٍ لا أعلم إن كان
ما زال يدّق أم مات كما مات كل من كانوا حوله من أحباب ، فرفعت عيني للسماء وحاولت
الشكوى لكنّي لم أجد أي كلام يعبّر عمّا يجول في الوجدان ، فاكتفيت بنظرة تضّرع أطّلت منها
كل مخاوفي ، ومشاكلي ، وهمومي ، ومصائبي ، نظرة لا يفهمها سوى من خلقني ، وعدت لغرفتي أبحث
فيها عن ذكرى بين الجدران تركتها أمّي أثناء طفولتي ، أو تركتها أنا أثناء شبابي في يومٍ ما !