اشتكى شاب ذات يوم من مشكلة مع أبيه، فالإبن يرغب بالدراسة الأدبية والأب يصرّ على الدراسة العلمية لأنّ مستقبلها أفضل، ونزولاً عن إصرار الأب، وخلافاً لرغبة الإبن، دخل الشاب الفرع العلميّ، وكان إن فشل الشاب في دراسته العلمية ممّا اضطرّ الأب إلى الخضوع راغماً للقبول بخيار إبنه بعد ضياع سنة.
الإبن حينها لم يكن شاكياً فقط، بل يطلب المشورة، وكان من بين ما قاله المستشار: خذني أنا مثلاً، فقد كنتُ طالباً عادياً طوال سنوات ما قبل الإعدادية أو (الثانوية) وعند مفترق الطرق لم يتدخل أهلي في اختياري؛ لكن الذين تدخّلوا وأصرّوا على إلتحاقي بالفرع العلمي هم زملائي الذين قالوا: إنّ الجميع اختار العلميّ، فلماذا تختار الأدبي؟ وأضاف المستشار قائلاً: أحمدُ الله أنّني لم أقع تحت تأثير العقل الجمعي فاخترت الأدبي لأتذوق التفوق لأوّل مرّة في حياتي الدراسية، فكنت الأوّل على مرحلتي.
قصة الشاب وقصة المستشار أيضاً ليستا قصتين غريبتين.. لهما من أمثالهما الكثير. ورغم التجارب الكثيرة، لا زال بعض الآباء يكرِّر الخطأ نفسه، ولا زال بعض الأبناء يدفعون ثمن الخطأ ذاته.
قبل أيّام نقل أب إنّ إبنه يريد أن يتخصّص في الإطفاء وقد بيّن لأبيه سبب اختياره: لأنّ فيه إنقاذاً لأرواح الناس!! الأبّ ردّ ردّاً مختلفاً، قال له: ألم تجد مهنة أخرى غير الإطفاء؟! مَنْ في العائلة يعمل إطفائياً حتى تعمل مثله؟ ولعل الأب كان يستحضر المردود المادي للمهنة أكثر من المردود الإجتماعي لها.
وهذه أيضاً ليست القصة الوحيدة، فما أكثر ما يقاربها ويماثلها في قصص اختيارات الشباب لا سيما حقلي العمل والزواج، وقصص دس أنوف الآباء في اختيارات أبنائهم بشكل يرغمهم على اختيار خيار آبائهم، أو أمّهاتهم أحياناً حتى ولو كان يصطدم باختيارهم، أكثر من أن تذكر أو تحصر.
بعض الذين اجتازوا العقبة وتخصّصوا في الفروع العلمية تجحوا في دراستهم وتخرّجوا؛ لكن الحنين ظل يلازمهم إلى اختيارهم الأوّل، ولا نشكّ أنّ الأطباء الأدباء والمهندسين الأدباء – إلّا ما شذّ وندر – كانوا قد انخرطوا وسلكوا في مهنهم باختيار أهلهم لها.. لسنا نشكّ أنّ الطب والهندسة والمحاماة والتجارة تطعم وتوفر رفاهية أكبر من الأدب والفروع الإنسانية؛ لكن الله أراد للحياة أن تتنوّع، وللإختصاصات أن تملأ، فلو كان الناس كلّهم (أرخميدس)، فمن أين لنا بـ(شكسبير)؟ ولو أنّ الناس كلّهم (شكسبير)، فمن أين لنا بـ(أرخميدس) وهكذا، ولعل الذي صاغ المثل الشعبي: (إذا أنت أمير وأنا أمير فمَن يسوق الحمير)، ناظر إلى هذه النقطة التخصّصية، أو سرّ الخصخصة.
أحدُ العلماء الكبار سئل – ذات مرّة – عن تربيته لأولاده، فقال: عليّ أن أن أسدي لهم النصيحة وأبصّرهم ما لا يبصرون، وهم الذين يقرّرون ويختارون، وحينها لا ألومهم على اختيارهم، فهم حيث يجدون أنفسهم لا حيث أجدهم أنا، فابن العالم ليس من الضروري أن يغدو عالماً، وابن الطبيب ليس بالملازمة أن يكون طبيباً، وابن المهندس ليس بالتبعية يصبح مهندساً، أمّا إذا وجد نفسه وهواه وذوقه ومزاجه ومستقبله في الطب والهندسة والعلم فعندها يكون هو الذي اختار ولستُ أنا الذي اخترتُ له!