الجزيري شاعر العشق والتصوف

واحد من كبار أئمة شعراء الصوفية في عصره، عاش قبل بضع قرون من السنين، وخلّف ديواناً ضخماً يزخر بأجمل الأشعار وأعذبها رونقاً وطلاوة، أبدع في لغة لم تكن معتبرة من لغات الإبداع في عصره، حتى بلغ بعلو كعبه أعظم شعراء التصوف قاطبة كالشيرازي في الفارسية وابن الفارض في العربية والفضالي في التركية، بما حوى ديوانه من الأسرار والفيوض والغزل الرقيق والزهد والحكمة والفخر ووصف الخمر وسوى ذلك من أغراض الشعر ومطارحات الشعراء، إلا أنه على عكس أقرانه المذكورين، أبتلي بالإهمال، فبقي ديوانه في منأى عن أشعة الشمس، حتى تراكم عليه غبار النسيان وهو ملقى في الزوايا المظلمة وعلى الرفوف المهترئة لا يكاد يذكره سوى قلة قليلة من طلبة العلوم الدينية من الكرد خاصةً، وذلك قبل أن يقيض الله له رجلاً كريماً وعالماً جليلاً فينتشله بأصابع العناية ليعرّف الكرد من جديد على شاعر كردي والمسلمين على متصوف جديد.

***

من هو الجزيري؟:

هو العارف الرباني والعاشق الرحماني الملا أحمد بن الشيخ محمد الجزيري من عائلة عريقة في التدين في جزيرة بوطان (جزيرة ابن عمر) الواقعة على ساحل دجلة بالقرب من جبل جودي في تركيا اليوم .

درس على والده الشيخ محمد علوم الدين ومبادئ الفقه ثم طاف في أنحاء ديار بكر والجزيرة والهكارية والعمادية للاستزادة منها وكان ذكياً فهيماً في تحصيله وذا صيتٍ حسن في الإحاطة بشكل خاص بفنون البلاغة العربية من أصول وبيان وبديع وقد أخذ إجازته في قرية ( ستراباس ) بالقرب من ديار بكر من عالم يدعى ( ملا طه ) ثم عمل إماماً في قرية ( سربا ) وسكن بعد ذلك مدة في بلدة ( حصن كيفا ) وأجاز هناك عدداً كبيراً من العلماء ثم لم يلبث أن أصيب بعشق تصوفي فترك الاشتغال بالعلم الظاهري وعاد إلى الجزيرة على هيئة بعض المجانين حيث استقر بها إلى أن توفاه الله.

وقد اختلف المؤرخون في تاريخ وفاته كما اختلفوا في تاريخ حياته والعصر الذي عاش فيه وذلك لندرة المصادر التي تذكره فالأمير جلادت بدرخان ( الذي كان يكتب تحت اسم بليج شيركوه ) رأى أن الجزيري توفي سنة ( 581 ) للهجرة في جزيرة بوطان مسقط رأسه في حين يقول المؤرخ الكبير ( محمد أمين بك زكي ) في كتابه ( مشاهير الأكراد ) إن اسمه هو الشيخ أحمد وهو مولود بعد ( الجامي ) الشاعر الفارسي وقد عاصر عماد الدين زنكي حاكم الموصل أي حوالي سنة ( 600 ) للهجرة

أما المستشرق الروسي ( أوغست يابا ) فقد كتب في كتابه ( بحث عن الأكراد ) إن الجزيري كان حياً سنة ( 540 – 556 ) للهجرة وبذلك قال مستشرق آخر هو الألماني ( فون هارتمان ) الذي قام بطباعة ديوان الجزيري في برلين سنة ( 1904 ) ووضع له مقدمة بالألمانية مع صورة تخيلية له .

نلاحظ مما تقدم أن جميع الآراء السابقة تكاد تتفق على فترة زمنية محددة هي القرن السادس الهجري سوى أن للملا أحمد الزفنكي محقق الديوان وصاحب الفضل في إحيائه رأي مغاير يذكره في مقدمة كتابه ( العقد الجوهري) إذ أنه توصل بعد مقارنة مجمل الآراء ومعاينة جميع الاحتمالات أن الجزيري عاش على التحقيق في الفترة ما بين ( 950 – 1050 ) للهجرة وذلك اعتماداً على ما ورد في ديوانه من أسماء الأعلام كالملوك والشعراء الذين سبقوه وغير ذلك من الأدلة الزمانية والمكانية الكثيرة التي يأتي الجزيري على ذكرها في خلال شعره وهذا برأينا أوثق الآراء وأكثرها مدعاة للقبول .

أتقن الجزيري لغات عصره العربية والتركية والفارسية بالإضافة إلى لغته الأم الكردية ونظم الشعر بها جميعاً فأدخل بعضها على بعض في تناغم سمحت به طبيعة هذه اللغات وتقاربها الجغرافي واللساني فضمّن في القصيدة الواحدة عدة لغات في أبيات متكاملة المعنى متشابهة الوزن والقافية وربما زاوج بين بعضها البعض داخل البيت الواحد من الشعر ببراعة منقطعة النظير تكشف عن تبحره في آداب تلك اللغات وتمكنه من فنونها جميعاً ولكاتب هذه السطور كتاب قيد الإنجاز هو ترجمة من الكردية إلى العربية تشرف بإنشائها لبعض المنتخبات من أشعار الجزيري ورباعياته الخالدة وسنورد طرفاً منها في خلال المقال جنباً إلى جنب مع دراسة موجزة عن بعض مناحي حياة الشاعر

وكان اتخذ له لقباً هو (نِشاني) الذي يعني (الدريئة أو الهدف الذي تصوب إليه السهام) يتخلص به في جميع قصائده وهذا كان عرفاً سائداً بين شعراء العجم وما زال حتى يومنا هذا وقد يكون المراد به ختم القصيدة بخاتم صاحبها منعاً من سرقتها أو انتحالها

المدرسة الحمراء

وقد شاعت بين العامة حكايات كثيرة عنه هي أقرب إلى الأساطير منها إلى الواقع فقد ذكر أن سبب عشقه وملهمة أشعاره الغزلية - في ظاهرها - كانت ابنة الملك الكامل حاكم (حصن كيفا) والتي كانت تدعى (سلمى) فمن الحديث السائر أنه يوم وقع بصره عليها مصادفة هام بها هياماً وصل به إلى درجة الجنون

أما عوام أهل الجزيرة (جزيرة بوطان) فيقولون أنه كان عاشقاً لمن سموها (ستيا بسك كسك) أي (السيدة ذات الأصداغ الخضراء) التي كانت ابنة أحد أمراء الجزيرة ويروون أنه كان يذهب كل يوم إلى مقبرة تقع قبالة قصرها ويسند ظهره إلى لوح في المقبرة منشداً أشعاره الغرامية في هواها بغية مشاهدتها فمما قال :

ألقى الحبيبُ بلطفه وجــماله

حبــاً تمكن من فؤادي باقتدارْ

والحسن سبّب ما جرى في الحب لي

ما كان لي رأي بذلك واختيـارْ

والزلفُ مخمـوراً تمايل راقصــاً

سَـحَراً على أصـداغها وإذا بـهِ

من بعد إحــرامٍ له عزم السـجو

د تضرعـاً للخـال في محرابــهِ

وكانت حرارة جسمه تسري إلى اللوح حتى يعود كتنور مسجور وكانت هناك عجوز اعتادت وقد علمت من أمر الملا ما علمت أن تهيئ عجينها كلما شاهدته قادماً إلى المقبرة حتى إذا مضى لشأنه أتت بالعجين إلى اللوح فخبزته

وهذه الحكايات وأشباهها – وإن لم نجزم بخلوها من بعض الحقيقة – هي بلا شك من وحي الخيال الشعبي الغني الذي يلذ له أن ينسج أغرب الروايات عن أشخاص العظماء لإضفاء هالة من القداسة والنورانية عليهم بنسبة الخوارق والكرامات إليهم .

رد المفتي الزفنكي كل أشعار الجزيري إلى التصوف وصبغها جميعاً بتأويل ديني يتفق مع الفكرة التي يحب أن يرسمها له في ذهنه ما ذهب به في بعضها مذاهب لم تسلم من العسف والتقويل والإبهاظ

فإذا تغزل الجزيري بسلمى فقال في شطر بيت بالعربية :

بالدعا بلّغ تحياتي لسلمى يا بريدْ

لم يكن ذلك عنده سوى كتغزل ابن الفارض بليلى , وإذا أفتى بشرب الخمر فقال :

يا صاحبي دع عنكَ ما قال العوامْ

وتوهـموا أن التقى تـركُ المدامْ

عاشوا ولكن عيش أعمىً في الظلامْ

فلذاك أفتــوا فيه إفتاءَ العمى

عد ذلك باباً في المجاز وشطحة لا يقف خلفها سوى تبحر في الفقه وترفع عن ديانة العوام المتهافتة , وإذا ذكر الخمر وأطنب في وصف لونها وطعمها واصفاً إياها في بعض الأحيان وصف شاربيها ومجالس ندمائها فقال :

عاود الهم فؤادي واستجدّا هات يا ساقيّ كأساً من زجاجِ

لم يعد ذلك إلا عالةً على قول ابن الفارض :

شربنا على ذكر الحبيب مدامةً سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم

وعلى هذا المنوال يسير الشيخ الزفنكي في تفسيره لديوان الجزيري نافياً عنه أية شبهة دنيوية أرضية وبالتالي أية ميول إنسانية يصنفها الفكر الديني عادةً في باب الآثام والخطايا

وحدة الوجود في شعر الجزيري:

وحدة الوجود هو من المبادئ التي انتقلت من الفلسفات الهندية إلى التصوف الإسلامي ومؤداه اتصال الإله بالكون اتصالاً وثيقاً واتحاده به لدرجة يصح معها أن يقال أن العالم هو الإله وأن الإله هو العالم فكل جزء من أجزاء العالم يعد من مظاهر الإله.

ويعزى إدخال هذا المبدأ في التصوف الإسلامي إلى أبي يزيد البسطامي الفارسي المتوفي سنة 261 للهجرة وإليه تنسب عدة أقوال منها:

" أنا عرش الله واللوح المحفوظ والقلم التي بها يخلق الله الخلق وأنا إبراهيم وموسى وعيسى وجبريل وميكائيل وإسرافيل"

" الحمد لي فإني أنا الحق , وأنا الله الحق فمن الواجب أن تنسب إلي جميع المحامد "

والقائلون بهذا المبدأ يقررون أنه ليس في الوجود إلا حقيقة واحدة هي الحقيقة الإلهية أو الله وما العالم بتفاصيله المختلفة إلا مظاهر للذات الإلهية كما يذكر ذلك الأستاذ محمود عبد القادر في كتابه ( بوذا الأكبر)

وعلى ما يظهر من كلام الجزيري في ديوانه – وهو مرجعنا الوحيد – فإنه كان أميل من الناحية الفلسفية إلى اعتبار الكون وحدة متصلة وتجليات شتى لجوهر فرد فنسمعه يقول :

وحروفُ هذا الكون شيء متصلْ

إن أنت وحّدتَ الشتات المنفصلْ

عادت كخطٍ مستقيمٍ إن وُصـلْ

والأصـل فيه نقطـةٌ لو تعلمـا

وأن كل ما في الكون نسخة عن جوهر وحيد خالٍ من العيب والنقصان :

كـل ما في هـذه الأكـوانِ

نُســخٌ عن جـوهرٍ فرداني

هو عنـوان كتـاب الكون إذ

مـَن رأى عيبـاً من العنـوانِ

الجزيري شاعر أهل البيت:

يغلب على ظني وإن لم يتطرق أحد من النقاد والدارسين إلى هذا أن الجزيري كان ذا ميول قوية إلى العلوية أو المذهب العلوي وهو مذهب أولئك الذين تشيعوا للإمام علي بن أبي طالب ابن عم الرسول وصهره فأنزلوه منزلة هي بين الألوهية والنبوة والولاية وأخذوا بتفضيله على سائر الصحابة والأئمة ونسبوا إليه من الخوارق والمعجزات ما لا ينسب إلا لإله أو نبي

وعلى ما يبدو فإن الجزيري كان آخذاً بطرفٍ من هذا المذهب بدليل الأبيات الكثيرة التي يذكر فيها الإمام علي بنفسه أو ببعض متعلقاته بصيغة لا تخفي الاحترام والتقديس الذي يكنه له فهو يقول مثلاً :

أنا إن ضاقت علي الأرض ليست تنجلي

وغـدا الناس جميعـاً ليس لي فيهم وليْ

لستُ أخشاهم وخلفي الليث لا يخذلني

سـيدي الكرار فيهم حيدر الهيجا عليْ

كما يقول في موضع آخر :

لي معـانٍ مثل بـرقٍ في الغمامِ

قد أتتني من فيوضـات الإمامِ

أمتطي الدلدلَ في ميدان شعري

ولسـاني سـيفه عند الصدامِ

إن شاعراً يختلف عليه فيظن فيه التصوف والخلاعة والمجون والغرور وتمدح السلاطين وتتوازعه العلوية ومذهب وحدة الوجود لهو شاعر يستحق أن يخلد لأن التناقض صفة لا تتوفر سوى للخالدين والشاعر إذا كان ذا لون وحيد فهو دون أن ينظر إليه أو يعنى بشأنه

عاش الجزيري حياة غير عادية وبعد سنوات من الغربة والتجوال والتشريق والتغريب شده الشوق إلى الجزيرة وكان شوق الطين إلى التراب وحنين الفاني إلى الفناء فقد امتدت الفترة وطالت الرحلة وأخيراً نفد الزاد ولم يتبق للغريب سوى أن يعود أدراجه إلى حيث فتح عينيه على الحياة للمرة الأولى

وهناك على تراب جزيرة بوطان وضع رأسه للمرة الأخيرة ودفن - رحمه الله - في قبو أرضي بجنوب المدرسة الحمراء الكائنة على سور المدينة في الجهة الغربية وكان بلغ من العمر خمس وسبعين سنة ومنذ ذلك الحين وضريحه مزار مقدس يتبرك به أهل القلوب من العشاق والصوفية على حد سواء

شكرا على مرورك الرائع يااختي الجزيري شاعر العشق والتصوف 542147