وصلت ذات يوم اخبار من باريس تفيد ان الفنان بيكاسو قد اصبح خزافا كان ذلك عندما بدأت حياة بيكتسو الفنية تتصل بفن " الخزف " لاول مرة على اثر زيارته صدفة لبلدة " فالوروى " عام 1946 ومشاهدة معرضها الخزفي السوي . تللك التي تقع على ربوة عالية بالقرب من " كان " وتبعد حوالي 2 كيلو متر من البحر المتوسط ، واسم البلدة يعني " واد الذهب " فهي محاطة بغابات الصنوبر وحدائق الزيتون حيث ينمو البنفسج واياسمين والزهور ، بالاضافة الى شهرتها في صناعة الروائح العطرية.عاشت بلدة " فالوروى" في العصر الروماني على انتاجها الخزفي الذي كان يتمثل في الاواني المصنوعة من الطين المتيسر وجوده في الاراضي المحيطة بها ، كذلك بعض ادوات المطبخ التي كانت ردئية الصنع ولا تتحمل الاستعمال او الطبخ.ولقد استمرت في انتاجها هذا الى ان ضمت ورشها الى المصانع الخزفية التي لم يتبق منها غير ورشة واحدة مزودة بفرن كهربائي تملكه سيدة تدعى " سوزان " وزوجها " جورج راميه " وقد تعرف بيكاسو على ورشة الزوجين ، اذ دعته العائلة لتشكيل بعض القطع من الطين عندما شاهداه يتأمل الانتاج ويختبر الطين بإعجاب شديد . ولقد قام الفنان بيكاسو فعلا لاول مرة بتشكيل ثلاث قطع خزفية قبل مغادرته الورشة ، ابدعها على سبيل التسلية وكانت هذه البداية. بعد ذلك اجرى بيكاسو حافلة بالتفاصيل لتصميم اناء خزفي على هيئة (ثور ) ومن الواضح انه كان يفكر تفكيرا جاد لمتطلبات البنية الخزفية وهي متطلبات معقدة وقد ساعده فيها فيما بعد ( آل راميه وكيميائي الخزف آل غور )ولم يشكل بيكاسو خزفا على الدولاب بنفسه ابدا بل ترك صناعة خزفياته لحرفي( مادورا )الا انه وضع تصاميم خاصة بعدد كبير من الاواني التي تم صنعها بمساعدة آل رامية وفريقهم بالاضافة الى التزيينللاشكال النموذجية سواء تقليدية الشكل ام تنويعات.أسباب التحول الى فن الخزففي العام 1947 باشر بيكاسو محاولة فنية جديدة لانتاج الخزف في الوقت الذي اتجهت فيه ممارست الفنون التصويرية على هذا الجانب من الاطلسي نحو التجريد باطراد وعلى نطاق يتزايد اتساعه اخذ مشروع خزفيات بيكاسو في الاتجاه المضاد نحو ما هو مادي ونحو نطاق صغير مسارا وهدفا لحرفة الخزف القديمة وان الفنان البالغ من العمر انذاك 66 عاما اتخذ الخزف وسيطا فنيا بقوة ابداعية تساوي تللك التي انكب عليها في أي حملة من الحملات الفنية السابقة.كان اتخاذه هذه النقلة حركة استراتيجية حيث كان يعيش مرحلة من حياته بدا يشعر فيها ان نظرة الجمهور الى فنه بدأت تتبلور وتتحول الى عقيدة جامدة وكان الدواء المضاد لهذا الركود النقدي هو الاندفاع في اتجاه جديد كليا.هناك اسباب كثيرة تفسر لماذا ظهر هذا الاتجاه الذي اتخذه بيكاسو نحو فن الزخرفة وخصوصا الخزف المنزلي ، هو ان الخزفيات بيكاسو تم ابداعها على خلفية من ستارة متواجدة كلها على شاطئ الازور بالاخص الطفلان ( كلودا ) و ( بالوما) وهما طفلا زوجته فرانسوا المولودين في العامين 1947 - 1949 على التوالي ، ولا شك ان منتج بيكاسو الواسع من الاطباق والصحاف والسلطانيات والمزهريات والاباريق والجرار تؤلف نوعا من الخزف الذي ينتسب الى غرفة تخزين اواني المائدة والمؤن Art of the Pantry المدنوغ بهذا الطابع العائلي على المستوى الشخصي والثقافي معا حيث ان اغلب اعمال بيكاسو الخزفية يمتلكها افراد عائلته.
الخزف وبيكاسو
كان فن الخزف والمواد الاولية المستخدمة فيه من عالم مجهول بالنسبة لبيكاسو في تلك الفترة. الا ان اسرة الزوجين اوحت اليه بان يتسع بفنه ويدخل في تجربة جديدة مع الطين والحريق والطلاء الزجاجي والالوان. معروف ان بيكاسو في حياته متواضع ، لذا كان على اتصال بصغار الخزافين بالورشة والورش المجاورة ، يشاهد انتاج اصحابها واسلوب عملهم الذي يتميز بالبساطة والبدائية مما اعاد الى ذاكرته ايام طفولته في " مالقا" والورش التي كان يزورها والانتاج الفخاري الاسباني البدائي والمنتج بنفس الاسلوب والطريقة.في بادئ الامر قام بيكاسو الاطباق الصغيرة والكبيرة الحجم البيضاوية والمستديرة بأشكال لها علاقة بانتاجه التصويري ولكنه بطريقة تتفق واسلوب معالجة الطين حيث ظهرت ثقته بنفسه في التنفيذوسرعته التي تتناسب تماما مع الخامة المستخدمة فكانت فرشاته السريعة والمختزلة تخرج لنا أشكالا مكونة من خطوة قليلية تعبر عما يجول بخاطره ، من عناصر طبيعية او حيوانية فقد صور انواعا من الطبيعة الصامتة على الاطباق، تمثل شرائح السمك والبيض وادوات الزجاج مستغلا في ذلك مساحة الشكل الفخاري كله حتى حافته مستعينا بظلال واضواء وخطوط قوية تحدد العناصر فتبدو وكانها مجسمة على السطح الفخاري ، هذا الاسلوب اتبعه بيكاسو في زخرفة اشكاله الفخارية مما اصبح من العلامات المميزة لفن الزخرف.
أظهر بيكاسو تفوقه في اسلوب معالجة الشكل البيضاوي المسطح والمجسم منه رغم معرفته لطبيعة الطين المستخدم وقد اعانه في ذلك ما كان عليه من سعة خيال وذكاء وقدرات ابتكارية عالية ، فالى جانب الاشكال المسطحة كان يذهب الى الورشة ويبدأ في اعادة تشكيل الانتاج الفخاري المجهز للتجفيف والحريق فيعيد تشكيله وزخرفته مثال ذلك ما كانت توحي به الاواني الفخارية من اشكال جديدة فيخلق منها بلمساته الحساسة اشكالا تمثل نساء مجسمات في اوضاع مختلفة او يحول الاشكال الى زهريات واوان وفي اشكال اخرى نجده يحورها الى طائر بمنقار مفتوح او حمامة او الى عنقاء او ماعز.
رغم الفترة القصيرة التي كان يقضيها بيكاسو في ورسة الخزف بفالوروى فقد كان يزور الورشة بعد الظهر حيث قام بأكبر واعظم انتاج للخزف خلال عام واحد من اقامته فانتج اكثر من الفي قطعة خزفية منذ اوكتوبر 1947 حتى اوكتوبر 1948 عرض منها حوالي 150قطعة في معرض باريس لاول مرة عام 1948 ووجد العالم فيها وجها جديدا لبيكاسو في خامة وبأسلوب جديد. ورغم قلة صفة الخزف كفن فيما تناول بيكاسو به فانه قد تمكن من حلق وتحويل هذا لافن ورفعه الى مستوى فنون التصوير والنحت والعمارة القديمة.
اكتشف بيكاسو ان الانتاج الخزفي قد استنفذه واستهلك حماسه وفي الوقت نفسه لم يستنفذ كل طاقته وقدراته فعزم على ان يعيش في فالوروى نفسها حتى يصبح بالقرب من ورشته وانتاجه الجديد الذي جذبه بسحره وشدة حتى عشقه فقد استطاعت عائلة " رامية" ان تعثر له على استوديو في مصنع مهجور للتقطير ومنزل ابيض مقام على ربوة عالية.
فالوروى قرية الخزف
تعترف قرية فالوروى بجميا بيكاسو في شهرتها والنجاح الذي حققته لهذه القرية فقد اعاد بيكاسو وضعها على الخاريطة ، والتناقض بين شهرة بيكاسو كفنان مبدع وبين خزفه الفخار الذي ظل بيكاسو يمارسه في تلك الورشة المتواضعة قد ساعدت على شهرة فالوروى فاصبحت القرية المشهورة ليس بماضيها فقط ولكن بما انتجه بيكاسو من خزفيات وملصقاتها السياحية والدعاية الكبيرة التي ترتبت على خزفها المعروض للبيع للجماهير . فقد اصبح بيكاسو علامة تجارية معروفة وورشته ذات طابع مثير يشد انتباه السياح وتحولت صور انتاجه الى بطاقات بريدية، وقد وصلت الدعاية لفن بيكاسو الخزفي الى جانب حب وتقدير اهل البلد له لدرجة لم يسبق لها مثيل الى حد ان بعض اصحاب المخابز شكلوا خبزهم على شكل يدى بيكاسو باصابعه الخمسة الفرطحة.
انتخب بيكاسو عام 1950 مواطن بلده فالوروى مما دعا بيكاسو الى اهداء المجلس المحلي نسخة برونزية من تمثاله الراعي والحمل وقد وضع التمثال في ركن من ميدان الكنيسة قريبا من نصب الحرب الكبير. وقد حاول احد الامريكيين شراء التمثال باربعة ملايين فرنك رفعها الى عشرة ملايين ولكن بيكاسو رفض ولم يوافق على بيعه.
وربما كان هذا التمثال ممثلا للراعي والحمل او لراع فقير في طريقه الى السوق لو لبيكاسو شخصيا على انه رجل مسالم يحمل بين يديه الحياة.هكذا وجد بيكاسو في ارض فالوروى ارضا خصبة يستطيع فيها ان يخضع كل شيء لفنه وخياله ، فقد كان يقضي غالبية وقته بين العمال الذين اعتبروه صديقا لهم .كان بيكاسو في عمله وفي كل حركاته جريئا وقويا وصارما يبدو كالشباب عندما يقوم بتشكيل نماذجه من الطين مرحا سعيدا بما انتجه، اما اللعب بالطين فقد كان مصدر الهامه الحقيقي والباعث لافكاره كجزء ضروري واساسي في عملية خلقه وابتكاره.
تجديد بيكاسو
ان فكرة البحث عن ارض فنية جديدة ابتداع اسلوب فني جديد للتعبير من شانه ان يستحوذ على تفكير اي فنان وقد سيطرت بالفعل على تفكير بيكاسو خامة الطين والمنتجات الخزفية تلك التي وجد فيها ما يجمع بين فنون الرسم والنحت والتصوير بالاضافة الى ما فيها من نفع واستعمال وقدرة على الانتشار لقد وجد بيكاسو في الخزف علاقة كبيرة بالحياة اليومية وامكانية نشرة ميسورة. فالاشكال الخزفية الممثلة في السلاطين والقدور والاواني الكبيرة والاطباق لم يعد ينتجها كتحف نادرة بل اصبحت اشياء مستخدمة في الحياة اليومية او للزينة او كادوات منزلية .بفضل بيكاسو اختلفت النظرة الى الخزف من اعتباره مجرد حرفة خزف الى اعتباره يجمع بين النحت الملون والتصوير والاستعمال.
بيكاسو والحضارات القديمة
لم يختلف بيكاسو عن تصويره ونحته الذي اعتمد على دراساته للفنون والحضارات القديمة وتنقيبه الدائم فيها ، فهو متعدد المصادر والثقافات وقد نرى ذلك واضحا فأوانيه التي تشتهر بالفوهتان المندمجتان في فوهة واحدة قصيرة بصفة خاصة تللك الاواني التي اخذها من خزف امريكا الجنوبية . تأثر كذلك بالصورة والرسوم الاغريقية وما عليها من زخارف توحي الاساطير القديمة للاغريقيين من رسومات حيوانات خرافية كما استخدم الاحمر الطوبي والاسود التي استعملها الاغريق من قبل. اهتم بيكاسو باظهار ملامح بشرية في اوضاع امامية وجانبية مطوقا الاجسام من جميع نواحيها في وقت واحد في مساحة واحدة بغية تسجيل النظرة السريعة الخاطفة للاجسام المتحركة.