تمتاز مدينة "اللاذقية" القديمة بكثرة مساجدها التراثية والتي تعود إلى حقبات زمنية متعددة، ويعتبر مسجد "الصليبة" الواقع في منطقة "الصليبة" من المساجد المتوسطة القدم حيث تشير لوحة جدارية مكتوبة على بابه الغربي إلى أنه بُنيّ عام1750.
وللحديث عن هذا الجامع التقينا الباحث التاريخي الأستاذ "جمال حسن حيدر" مدير دائرة الآثار باللاذقية حيث قال لموقع elatakia: «لا يوجد نص رسمي يؤكد تاريخ بناء مسجد "الصليبة" سوى وثيقة رسمية "فرمان سلطاني" تشير إلى تعيين خطيب ومُدرس لهذا المسجد تاريخها شهر "صفر" 1162 هجرية الموافق لـ "كانون الثاني" عام 1749 ميلادي".
فيما تشير لوحة جدارية رخامية حديثة أن المسجد يعود لعام 1171 هجرية وبناه "أحمد بن حسن جلبي" المعروف بـ "ابن قره باغة"، ودائرة الآثار صنفته ضمن المساجد الأثرية بالمدينة والبالغ عددها 15 مسجداً وفي قانون الآثار لدينا معياران يتم على أساسهما تسمية البناء آثرياً المعيار الأول أن يكون قد مضى على بنائه أكثر من 200 سنة ميلادية أو 206 سنوات هجرية، والمعيار الثاني هو أن يكون البناء له مكانة تاريخية أو دينية أو وطنية، ومسجد "الصليبة" حقق هذين المعيارين».
وبالنسبة لوجود عدد من المساجد الاثرية في منطقة "الصليبة" وما حولها ومنها "الفتاحي" و"المشاطي" و"البازار" والجديد" والمغربي" أرجع "حيدر" وجود هذه المساجد لكونها حدود مدينة "اللاذقية" القديمة، أما المسجد فيقع في حي "الصليبة" إلى الجنوب من قوس "النصر" وربما أخذ اسمه من المنطقة التي بُني فيها.
وفي المسجد التقينا الشيخ "عماد الدين شيخ خميس" إمام وخطيب جامع "الصليبة" والذي عاد بذاكرته إلى عام 1974 حيث حدثنا بالقول: «كان عمري عشر سنوات وأنا آتي إلى المسجد لأداء فريضة الصلاة وأتذكر أن المسجد كان عبارة عن الحرم القديم وهو الجزء الأكثر قدماً ويتسع لحوالي 280 مُصلي، وكان هناك بهو ذو فسحة سماوية يتوسط الحرم القديم وحرم المؤضئ، ونظراً لصغر مساحة
الحرم القديم تم مع الأيام إجراء عملية سقف للبهو ليضاف إلى المسجد وذلك عام 1990على نفقة المغفور له بإذن الله "عمر نعيم وليد".
ويتسع القسم المتوسط لـ 300 مصل وتم لاحقاً ضم البهو الخارجي والذي يتسع لـ 150 مصلياً وفيه بئر ماء ما زلنا نستخدمه حتى الآن للوضوء وتنظيف المسجد، ومنذ ست سنوات تم بناء مًصلى للنساء له مدخل خاص به».
أما المهندسة "مي حلبي" من القسم الفني في مديرية أوقاف "اللاذقية" قدمت بدورها وصفاً معمارياً للمسجد حيث قالت: «يمكن ملاحظة كتلتين معماريتين إحداهما حديثة تدعى حرم الموضأ ومعها البهو والأخرى قديمة تدعى الحرم الداخلي، ونجد أن الحرم الداخلي للمسجد مسقوف بأربع قباب دائرية قاعدتها مرتفعة حملت على أقواس ترتكز أربعة منها على عمود دائري يتوسط الحرم وتتداخل الأقواس الباقية مع كتلة الجدران الحاملة لها حتى تصبح كتلة واحدة ويمتاز مسجد "الصليبة" بأن قببه الأربع يحملها عمود واحد وهذا نادر وجوده في المساجد.
وبالنسبة لجدران الحرم القديم نرى "الجدار الجنوبي" ويحوي "المحراب" في المنتصف وبقربه منبر خشبي حديث العهد وعلى جانبي المنبر والمحراب عن اليمين واليسار نافذتان من كل جهة وإلى جانبيهما مكتبة جدارية تظهر على شكل نافذة، ويعلو النافذتين الجانبيتين قوس حجري من كل جهة يتوسطه نافذة علوية، فيما نرى تشابهاً بين الجدارين الشرقي والغربي وهما متماثلان يحتوي كل منهما على أربع نوافذ يعلو كل نافذتين قوس حجري كبير يتوسطه نافذة علوية، أما الجدار الشمالي فيتوسطه باب رئيسي وإلى جانبيه بابان جانبيان أصغر منه حجماً وعلى جانبي الباب الرئيسي قوسان حجريان تتوسطهما نافذتان علويتان، وتحتفظ جدران الحرم القديم
التي يفوح منها عبق التاريخ وتروي قصص وحكايات لأناس تعلموا فيه وعلموا، وتصل سماكة الحجر القديم إلى حوالي 200 سم.
ويفتقد جامع "الصليبة" حالياً للصحن المكشوف والذي تم ضمه إلى الجامع وتحويله إلى حرم وهو الآن حرم "الموضأ" ومنه يتم الدخول للجامع بالإضافة إلى المواضئ والحمامات وكلها تقع ضمن البناء الحديث، ويدخل المصلون إلى المسجد من مدخلين على استقامة واحدة، بالإضافة لمدخل إلى سكن الإمام وسدة النساء، وبابا هذين المدخلين حديثا العهد وليسا كأبواب باقي المساجد الأثرية وهما من الحديد المشغول بالنحاس مع الزجاج».
وعن المداخل أضافت: «المدخل الشرقي يؤدي إلى حرم الموضأ، وتعلوه لوحة كتب فيها تاريخ بناء الجامع وتاريخ ترميمه، فيما يقع المدخل الثاني للمسجد الجهة الغربية ويعلوه عتب حجري ضمن قوس حجري وعلى جانبي الباب مصطبتان حجريتان ويعلو القوس الحجري لوحة تحمل تاريخ بناء الجامع ويخلو القوس من الزخارف الحجرية، وإلى جانبه يقع مدخل النساء وهو يعلوه أيضاً قوس حجري من نفس طراز قوس الباب الغربي، ونلاحظ أن هذا الباب منحرف قليلاً بحيث يشكل مزولة تحدد وقت الظهر من كل يوم».
وتتابع: «أما مصلى النساء فهو عبارة عن قسمين القسم الأول يتم الصعود إليه بدرجتين ويلحق به مواضأ للنساء، والقسم الثاني يتم النزول إليه بدرج وقد تم تجديد مصلى النساء حديثاً».
وعن مئذنة المسجد قالت: «تقع المئذنة في الجهة الشرقية وهي رشيقة مضلعة يحيط بها في منتصفها إسوارة حجرية، وكباقي المآذن العثمانية نشاهد النجمة السداسية ولكنها تظهر هنا مرتين، وتنتهي المئذنة بتزيين حجري على محيطها العلوي "مقرنصات" ومن ثم شرفة حجرية مسقوفة بـ "شادروان"
حجري تعلوه قبة مستندة على اسطوانة حجرية، ولو أردنا تمييز المئذنة نجدها تتألف من قسمين الأول داخلي على شكل متوازي مستطيلات، والثاني خارج جسم الحرم وهو عبارة عن اسطوانة مقسمة إلى ثلاثة أجزاء، اثنان منهما متساويا الارتفاع يظهر في القسم الأخير من الجزء الثاني أشكال هندسية والجزء الثالث يستند على "مقرنصات" حجرية ويمكن تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء وهي قسم خشبي محيطي مفرغ بهيئة نوافذ، وقسم مضلع حجري ذو عشرة أضلاع يستند مباشرة على الأسطوانة المقطع المتضايقة، وقسم عبارة عن قبة كروية صغيرة وهي القسم الأخير من المئذنة».