إن كنت قادماً من محافظة "دير الزور" إلى "البوكمال" ووصلت إلى تخومها؛ فلن يلفت انتباهك عبارة الترحيب بالمدينة أو حتى يستوقفك فضولك لقراءة الإعلانات الطرقية، لكن ربما تلتقط عدسة عينيك الشكل الهندسي لتلك البيوت الريفية المُشيدة على جانبي الطريق؛ أو قد يبهرك منظر أشجار النخيل الشامخة التي تُجاور نهر "الفرات" الذي لا يزال يروي حكايات فيضانه للقاطنين في هذه البيوت الحديثة، حكاياتٌ تعودُ بنا إلى عدة عقودٍ من الدهر لتعكس صورة الأجداد الذين عاصروا وذاقوا ويلات ذاك النهر العنيد.
إنها قرية "السكرية" التي باتت تسمى حالياً بلدة "السكرية" بعد أن تصالح النهر مع أبنائها ووقّعوا هدنة لحسن الجوار، فيتحدث الحاج "أحمد علي الحمد" مختار البلدة عن بداية نشوئها قائلاً: «لم تكن هذه البلدة في الماضي البعيد سوى تجمعاتٍ سكانية متناثرة عشوائياً على ضفاف نهر "الفرات" وبسبب الفيضانات المتكررة لهذا النهر خلال فترة السبعينيات اضطروا للابتعاد عنه لحماية أنفسهم وممتلكاتهم ليشكلّوا بذلك قريةً صغيرة محاذية للنهر، واليوم وبعد انقضاء سنوات المعاناة تحوّلت تلك القرية إلى بلدةٍ كبيرة أصبحت بمثابة واجهة لمدينة "البوكمال" للقادم من محافظة "دير الزور"».
وعن المؤسسين الأوائل لهذه البلدة تحدّث السيد "لورنس أحمد الخلف" (47) سنة وهو من أحد سكانها قائلاً: «تعتبر عشيرة "المشاهدة" هم أول من سكنوا "السكرية" فمنذ عام /1967/م كان أبناء هذه العشيرة يسكنون بالقرب من نهر "الفرات" وبسبب فيضان النهر المتكرر قرّروا النزوح من هناك والاستقرار في الموقع الحالي وذلك عام /1978/م وتضم عشيرة "المشاهدة" خمسة أفخاذ وهم "الدلو" و"حسان العلي" و"المدلج" و"خلف العلي" و"البو حسين" وبهذا فإن جميع سكان البلدة هم أبناء عمومة متفقون ومحافظون على العادات والتقاليد التي عاشوا وتربّوا تحت مظّلتها مثل معظم سكان المنطقة الشرقية الذين يفتخرون بهذه العادات الجميلة كالكرم والجود والشهامة والأمانة».
بدورهِ تحدّث السيد "مسلم مطر الحمد" رئيس بلدية "السكرية" عن عدة جوانب؛ فيقول: «تقع بلدة "السكرية" على الضفة اليمنى لنهر "الفرات" وهي تجاور مدينة "البوكمال" يبلغ عدد سكانها نحو /17/ ألف نسمة بحسب آخر إحصاء سكاني عام /2009/م يعمل معظمهم بالزراعة وتربية الحيوانات؛ وأهم المحاصيل الزراعية هي الحبوب والخضراوات؛ تبلغ مساحة الأراضي المزروعة نحو /10/ آلاف دونم. كما تشتهر بمزارع كثيفة للنخيل، كما يوجد فيها مصفاة لمياه الشرب؛ أما بالنسبة للتعليم فتضم /8/ مدارس لمختلف المراحل ومعظم الجهاز التدريسي إما من داخل البلدة أو من المدينة. وتسمى بـ"السكرية" نسبةً إلى استخدام سكانها القديمين للـ"سُكرْ" من أجل رفع منسوب مياه النهر لسقاية الأراضي الزراعية بواسطة "الراحة" أو "الغراف" ومنها اشتقت كلمة "السكرية"».
وتابع السيد رئيس البلدية حديثه فيما يتعلق بالجانب الخدمي للبلدة؛ قائلاً: «كانت هذه البلدة تتبع إدارياً لبلدية "البوكمال" حتى تاريخ 30/7/2007م حيث تم تسميتها فيما بعد بلدة، ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم نعمل كبلدية على تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين الذين حُرموا منها طوال فترات سابقة، وقد استطعنا تنفيذ جزء من مشاريع الصرف الصحي إضافةً إلى فتح وتعبيد شوارع فرعية ضمن البلدة؛ وهناك مشاريع أخرى في المستقبل القريب لتوسيع دائرة الخدمات المُقدّمة. فكما هو
معروف لدى الجميع فإن بلديتنا هي حديثة الولادة وحتى الآن لا نملك مبنى خاصا بنا؛ بل اضطررنا إلى تأجير شقة لنحوّلها إلى مبنى حكومي، فأهم شيء في عملنا خلال الفترات اللاحقة هو السعي لإنهاء شبكة الصرف الصحي لكامل أحياء البلدة وهي بالتأكيد من أولويات مشاريعنا المستقبلية، لأن المُنجَز لا يتجاوز /30%/ ونحن الآن بصدد دراسة لمعظم البنية التحتية للبلدة وأهمها مشروع إنارة لجميع الشوارع المُظلمة للبلدة».
ولهذه البلدة شرف الدفاع عن الوطن أثناء وجود الاحتلال الفرنسي؛ فقد قدّم أبناؤها دماءهم الطاهرة ثمناً للحرية؛ وبهذا الشأن تحدث المختار "أحمد علي الحمد" قائلاً: «كانت "السكرية" مكاناً ومركزاً لتجمع والتقاء الثوار القادمين من القرى المجاورة من أجل التخطيط لتنفيذ عمليات الدفاع والهجوم ضد الجنود الفرنسيين، حتى إن أبناء البلدة كانوا يشاركون إخوانهم في المعارك التي كانت تنشب خارج حدود "السكرية" كمعركة "المصلّخة" عندما ألقى الثوار بالجنود في مياه نهر "الفرات" بعد أن جرّدوهم من لباسهم. ومن شهداء البلدة أذكر أسماء بعضهم أمثال: "يوسف الأحمد وعواد الأحمد وأسود المحمد"».
تعاني معظم القرى والبلدات التابعة لمدينة "البوكمال" بما فيها بلدة "السكرية" من الهجرة الكبيرة لشبابها إلى دول الخليج لكنها في الوقت ذاته نعمةٌ لعوائلهم، فبهذا الخصوص تحدّث الحاج "خضر محمد
العواد" أحد سكان البلدة؛ قائلاً: «لهذه الهجرة آثارها السلبية والإيجابية في آنٍ واحد؛ فأما الإيجابية فهي تحسين واضح للوضع المادي للعائلة سواء من حيث السكن أو الوضع الاقتصادي بشكل عام، وأما آثارها السلبية فهي الأخطر والمتمثل في غياب رب الأسرة عن أسرته فترة طويلة ما يُخيم بظلالها على تربية الأبناء الذين يصبحون فريسة سهلة أمام الانحراف والميل نحو السلبية في ظل غياب الأب أو الأخ الأكبر».