منذ مطلع القرن العشرين والقاطرات البخارية شاهدة على أحقاب طويلة من تاريخ سورية؛ حيث واكبت الكثير من المراحل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي مرت بها المنطقة، وقد بلغ عدد القاطرات التي عملت على الخط الحديدي الحجازي في أوائل الستينيات من القرن الماضي 132 قاطرة بخارية من مصادر مختلفة.
كل قاطرة تحكي عن مسيرة حياتها منذ مئة عام، تلك المسيرة التي توجت بثلاثة متاحف نادرة أنشئت في محطة "القدم" جنوب "دمشق" هي من أكبر المتاحف السككية في العالم وهي "المتحف الحي" وهو عبارة عن قسم المخارط، حيث مازال يعمل بأدواته القديمة التي يعود تاريخ صنعها إلى عام 1908، وقد أصبحت هذه المقتنيات نادرة عالمياً وغير موجودة، وتعتبر ورشة عمل حية يعمل العاملون فيها أمام زوار المتحف، ومتحف "القاطرات والأدوات المتحركة والمحركة" وفيه 18 قاطرة بخارية يضمها الآن متحف الهواء الطلق، أقدم هذه القاطرات تعود لعام 1894 و1895 وأحدثها لعامي 1914 و1916.
أما متحف "المقتنيات الأثرية" فتوجد فيه الهواتف والمبرقة القديمة، الوثائق والفرن الحراري لتلبيس دواليب القاطرات ومكبس ومقص وميران لنوابض القاطرات، مدافئ قديمة تعمل على الحطب أو الكاز وآلة طابعة تعمل على مادة الزفت، كما أن هناك جرس إنذار وآلة خاصة بنفش القش لتنجيد مقاعد القطارات العاملة على الخط، مكابس لقطع التذاكر وألبسة موحدة لعمال الخط، شارات "أزرار" تحمل شعار مؤسسة الخط الحديدي الحجازي، ومن المعروضات أيضاً مثقب قديم يعمل على القشط، آلة لصيانة الخط يطلق عليها "تربرينا"، فوانيس للإنارة ومقسم فرنسي الصنع يعود لعام 1920، كل هذه التفاصيل حصلنا عليها خلال جولة موقع "eSyria" في معامل محطة "القدم" برفقة السيد "أحمد خير عابورة" أحد المشرفين على المتحف الذي حدثنا عن المحتف الأثري الذي تم إنشاؤه في المحطة.
بداية الحديث كان عن أهمية الموقع ومحتوياته والفكرة من إقامة المتحف، عن ذلك يقول: «انطلاقاً من أهمية محتويات المحطة من قاطرات قديمة وقطع تراثية لها القيمة الحضارية والتاريخية تم إنشاء متحف على أرض معامل محطة "القدم" يجمع القاطرات والعربات الهامة في تاريخ الخط الحديدي الحجازي تحت اسم
"متحف الأدوات المحركة والمتحركة"، وكما تم اختيار هذا الموقع ليكون نفس المكان التاريخي الذي كان ومازال معداً لوقوف القاطرات إما للصيانة أو الاستعداد للرحلات الدورية».
يتابع "عابورة" حديثه وهو يطلعنا على أهم القاطرات والأجهزة في المتحف: «لعل ما يميز متحف القاطرات عن غيره من متاحف العالم عرض كثير من القاطرات البخارية التي تجاوزت مئة عام من العمر لكنها ما تزال تؤدي عملها في رحلات الضواحي حول مدينة "دمشق"، وهي عربات تم تجديدها ووضعها في العمل، بعض هذه العربات يحمل صفة السلطانية نسبة إلى السلطان "عبد الحميد" الذي دأب على استعمالها في رحلاته، وبعدها جلبت من "ألمانيا" ودول أجنبية عديدة».
عبق الحضارة، والشعور بالتراث الذي تحمله سورية كانا يتجولان معنا في المتحف من خلال إطلاعنا على أقدم القاطرات والأدوات التي تخص الخط الحديدي الحجازي، عن هدف المؤسسة بإنشاء المتحف يقول "عابورة": «تهدف المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي من إنشاء متحف "الأدوات المحركة والمتحركة" إلى إغناء الدور السياحي للخط الحديدي الحجازي في سورية، وبالتالي إتاحة المجال للمزيد من التواصل بين هواة وباحثي السكك الحديدية».
يتابع: «أوجدت المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي متحفاً للقاطرات البخارية القديمة المتوقفة منها والتي مازالت على رأس عملها بالإضافة إلى قاطرات الديزل والعربات، أما المتوقفة منها فقد نالت شرف الخدمة يوماً ما في القرن الماضي، إذ كانت آنذاك من أكثر الوسائط حداثة وتلبية وسرعة في نقل الركاب والبضائع، كما أنها واكبت الكثير من المراحل مرت بها المنطقة عبر تلك الحقبة، أما بالنسبة للقاطرت التي لاتزال تعمل فقد أثبتت أن دورها لم يكن مرحلياً قط إذ استمرت في تأدية واجبها جنباً إلى جنب مع القطارات الحديثة».
تتحدث كل قاطرة عن نفسها من خلال لوحة التعريف المسندة
إلى جانبها وبمجرد أن ينظر الزائر إلى هيكلها الزاخر بالإرث التاريخي العريق فكأنما يرى فيلماً وثائقياً عن مسيرة حياتها، يكمل السيد "عابورة" حديثه، حيث يتطرق إلى كيفية عملية الصيانة والترميم: «بلغ عدد القاطرات التي عملت على الخط الحجازي إلى أوائل الستينيات من القرن الماضي مئة واثنتين وثلاثين قاطرة بخارية من مصادر مختلفة، وهنا تمت الاستعانة بخبرات العاملين القدامى لصيانة وإعادة تعمير العربات والقاطرات البخارية المعروضة، وذلك بمشاركة كوادر المؤسسة المؤهلة التي زادت خبرة فوق خبرة لمتابعة مسيرة العمل في المستقبل، حيث إننا نرغب ونحاول في أن نوسع المتحف ونجعله ذات صفة أكثر من عالمية».
"متحف المقتنيات" يمتلك صفة الإبحار في عالم القاطرات التراثية والقطع التي كانت ومازالت قيد التنفيذ، عن ذلك تقول المهندسة "كلود سكران" رئيسة دائرة المتاحف: «لقد أقامت المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي متحفاً للمقتنيات تعرض فيه الكثير مما يخص القاطرات، العربات، المعمل والمحطات من عُدد وأدوات أضحى بعضها أثرياً ذا قيمة تاريخية أما البعض الآخر فقد أثبت جدارته بالاحتفاظ بعمله إذ استمر حتى اليوم بتسهيل مهام موظفي المؤسسة، أما عن "المتحف الحي"، فقد أشرف الخبراء العثمانيون والألمان على تجهيز أول معمل مختص بصيانة القاطرات البخارية وعربات الركاب في "دمشق" بمنطقة "القدم"، وكان هذا المعمل نموذجاً مصغراً عن معمل "كيم نبتس" في "ألمانيا" والذي عُرف في تلك الحقبة باعتماده على أحدث تقنيات العصر العالمية على البخار، ما يبرز أهمية معمل "القدم" وفرادته في الشرق الأوسط من حيث العدة والعتاد، ومن الجدير ذكره أن أقسام المعمل لازالت في أكثر من مئة عام على دخولها معترك العمل، وبعض آلاتها تمتاز بتفردها في طبيعة عملها على الصعيد الداخلي».
الاعتناء من قبل المؤسسة والرغبة بتطوير المتحف كان واضحاً من
خلال حديث السيد "غسان حسن" من محطة "الحجاز": «انطلاقاً الأهمية التي تمتلكها موجودات المتحف قامت المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي بإدارتها الحالية وبمناسبة الذكرى المئوية لتسيير الخط الحديدي الحجازي بإعادة توضيب أقسام المعمل المهمة، مثل قسم البخار، المكابس، المخارط والحدادة، والسكب والتي تعد مجتمعة مركزاً متكاملاً لتعمير وصيانة القاطرات البخارية والديزل، إضافة إلى الأقسام الأخرى التي عملت على تعمير عربتي السلطان "عبد الحميد الثاني" وعربات الحج».
يتابع: «من هذا المنطلق حولت المؤسسة هذا المعمل بأقسامه إلى متحف للعيان لتشارك به الزائرين متعة مشاهدة مئة عام ونيف من الإرث المستمر بالعطاء حتى الآن وأطلقت عليه تسمية "المتحف الحي"».