في غفلة من الزمن وبعد مضي أكثر من قرن على بنائها في الزاوية الجنوبية الغربية من قلعة "أرواد"، واحتلالها أعلى قمة في الجزيرة وفي قلوب الأرواديين، وإشرافها على ساحل الجزيرة من جميع الاتجاهات وعلى الساحل السوري بأكمله، صدر قرار إزالة منارة "أرواد" في عام "1998" لأسباب لم يقتنع بها الأرواديون، حيث كانت شاهداً على مراحل زمنية متعددة، وعلى أرواح الكثيرين الذين اهتدوا بها في رحلاتهم البحرية، وعلى جميع زوار الجزيرة الذين اعتبروها رمزاً ومعلماً لا يقل أهمية عن الجزيرة وقلعتها يجب زيارتها في كل رحلة.
وللتعرف أكثر على "منارة أرواد" وعلى صدى قرار إزالتها لدى المجتمع الأروادي ومكانتها في حياة أهل الجزيرة، قام eSyria باستطلاع العديد من الآراء، والبداية مع ابن "المنارة" المحامي "عبد العزيز دقماق"، الذي قال: «هي البيت الذي عشت وترعرعت في كنفه وبين أحضانه عشرات السنين، وكنت الدليل السياحي لجميع قاصدي الجزيرة للتمتع بمشاهدة الساحل السوري وكامل الجزيرة من أعلى قمة فيها وهي شرفة "المنارة"، التي أحبها كل من زارها وأصبحت مقصده في كل زيارة للجزيرة».
ويتابع: «لقد كان والدي الحاج "عبد اللطيف دقماق" الموظف المكلف بإدارتها منذ بنائها، وكان بجوار قاعدتها على سطح القلعة منزلنا الذي عشنا به حتى آخر لحظات شموخها قبل إزالتها، وكموقع هام وجد على جميع الخرائط البحرية العالمية عملت "منارة أرواد" على إرشاد البواخر والزوارق العربية والأجنبية بنظامها الضوئي المميز، الذي يعلمها بأنها مقابل جزيرة "أرواد" وعلى مسافة معينة وفقاً لعدد المرات التي يضيء فيها الفانوس وينطفئ في الدقيقة الواحدة».
وعن مكانة "المنارة" في قلوب من زارها من العرب والأجانب قبل إزالتها، وهو مما استخلصه دليلهم السياحي منهم خلال مرافقتهم في أغلب جولاتهم للجزيرة في ريعان شبابه، يقول المحامي "عبد العزيز": «أحب زوار جزيرة "أرواد" العرب منهم والأجانب "المنارة" كثيراً، حيث كانوا يزورونها كلما زاروا الجزيرة، ويتمتعون بالصعود إلى أعلى قمة فيها وهي "الشرفة" عن طريق الدرج المعدني الدائري الداخلي، ليشاهدوا معالم الجزيرة وسورها "الفينيقي" وأبراجها وشاطئها وزوارقها وبواخرها الكبيرة وشواطئ مدينة "طرطوس" ومدينة "عمريت" الأثرية».
ويختم حديثه
بالقول: «لقد شاهدت من عليائها فلول الفرنسيين المحتلين وبوارجهم الحربية وهي تغادرنا مع فجر يوم الجلاء، فهي شاهدة على العصر، ولا أعلم لماذا نسيت المديرية العامة للآثار هذا، وأزالت بنائها بذريعة لم نجد لها مكاناً على أرض الواقع، وهي تصدع أساسات البناء المقامة عليه».
وفي لقاء مع الحاج "مصطفى دحه" من أهالي جزيرة "أرواد" الذي يزيد عمره على السبعين عاماً، قال: «لقد كانت "منارة أرواد" المنارة الوحيدة في "طرطوس" وكنا نسميها "الفنار" في تلك الأيام، وأتذكر أننا كنا نراقبها بشكل مستمر في شهر "رمضان" لنرى الحاج "عبد اللطيف" يكشف الستائر عن إطلالتها الجميلة، فنعلم أن الشمس قد غربت وحل موعد الإفطار».
ويتابع: «لقد أدركنا الحياة نحن جيل السبعينيات وما فوق بشموخ هذا "الفنار" الذي كنا نستمتع كثيراً بمشاهدة الزوار القادمين إلى الجزيرة وهم يتوافدون إليه ليتمتعوا بمشاهدة روائع جزيرتنا من أعلى نقطة ممكنة بعد اكتشافه من الداخل والخارج».
ولكثرة ما سمعنا عن هذه "المنارة" من كلمات جميلة وقصص أروادية ارتبطت بها، زدنا شوقاً لمعرفة المزيد عن تفاصيلها الإنشائية وهل يوجد فيها سر أم هو العشق لها فقط، فاتجهنا إلى أستاذ الجغرافية "عدنان دقماق"، الذي حدثنا قائلاً: «هي منارة قديمة جداً، وقد أخطؤوا كثيراً في إزالتها دون حجة مقنعة وخاصة حجة التصدع في أساساتها التي أوجد العلم الحديث الكثير من الحلول لها، وكان من الممكن تفاديه بكل سهولة».
أما عن مواصفات "المنارة" فيقول: «بعد إزالة "المنارة" الحجرية أشيد بدلاً منها "منارة" معدنية تحتاج
إلى صيانة دورية منعاً لتلفها بالصدأ، في حين كانت "المنارة" القديمة مبنية من الحجر الطبيعي بشكل اسطواني ولا تحتاج إلى صيانة بشكل دوري، وكان طولها أكثر من خمسة عشرة متراً وعرضها حوالي المتر والنصف الذي يقل كلما اتجهنا إلى الأعلى، ويمكن الصعود إليها عن طريق درج خارجي يصل إلى سطح القلعة ومنه إلى الشرفة بواسطة درج معدني حلزوني، حيث يمكن التوقف عليها لمشاهدة الجزيرة والساحل بالكامل، ويمكن الصعود منها إلى القسم المقزز بألواح بلور مكبر للضوء، أي إلى القبة التي تحتوي على الفانوس الذي يعمل على غاز "الأوستيلين" بعد أن عمل على "الزيت" ثم "الكاز"، بدقة ونظام فائقين، وأيضاً يوجد في أعلاها مانعة الصواعق».
ويقول الأستاذ "علي نجم" رئيس بلدية "أرواد": «هذه "المنارة" وعلى مدار أكثر من قرن كانت المرشد الوحيد للبواخر والزوارق المحلية والعربية والعالمية، لذلك نجدها على الخرائط البحرية العالمية كرمز ل"أرواد" حتى الآن، وهذا ما جعلنا غير مقتنعين بحجة إزالتها، وخاصة لما ملكته من قوة ومتانة جعلتها تعمل على مدار قرن دون تلكؤ أو تقصير».
وفي عام "1998" وقف الأرواديون في دهشة وحيرة من أمرهم خلال عملية إزالة "المنارة" وبدأت مخيلتهم باسترجاع الصور التي طبعت في ذاكرتهم، حيث وصف لنا السيد "محمد سليمان" مختار "أرواد" هذه اللحظة بالكارثة، فقال: «في تلك اللحظة تذكرت السيد "عبد اللطيف دقماق" وكيف ستنتهي ذكراه من حياتنا وكيف سيمسح تاريخ قرن كامل بدفن شاهده "المنارة"، وتخيلت تلك الأيام زمن المراكب الشراعية التي كنا ننتظر
قدومها من سفرها بفارغ الصبر، فكنا عند سماعنا نبأ اقتراب أي قارب نمتطي صهوة "الشرفة" الخاصة بالمنارة لكونها الأعلى لمراقبة اقترابه ووصوله إلينا».
وختم المختار "محمد" هذا الاستطلاع بفائدة كانت تقدمها "المنارة" وهي حسب قوله: «تتعرض الجزر في فصل الشتاء إلى الكثير من الصواعق، وكانت "أرواد" محمية منها بفضل مانعة الصواعق التي كانت موجودة على أعلى "المنارة"، وبعد إزالتها ومرور فصل الشتاء تعرضت الجزيرة إلى صاعقة أردت أخوين من أسرة واحدة، فأضيفت هذه المأساة إلى ذكرى إزالة "المنارة"».