ما إن تتجه نحو الشرق منطلقاً من مدينة "النبك" بريف "دمشق" حتى ترى عشرات السيارات والبولمانات المتجهة بذات الاتجاه أو العائدة، والوجهة ببساطة شديدة "دير مار موسى الحبشي" فرغم الجبال الجرداء التي تحتضن الدير إلا أنها تتكلم لغة تخاطب القلوب جميعها، وهو ما ينشده الزائرون، فما قصة هذا الدير؟
"339" درجة هو عدد الدرجات، التي يضطر أي زائر أو سائح لتسلقها ليصل إلى دير "مار موسى الحبشي" في قمة أحد جبال "القلمون".
eSyria زار الدير بتاريخ /8/5/2010/ محاولاً إلقاء الضوء عليه والتطورات التي حدثت له وآلية العناية به.
الأب "باولو دالوليو" رئيس الدير يصف لنا الدير قائلاً: «يقع دير "مار موسى الحبشي" في واد وعر من وديان سلسلة جبال "القلمون"، ويرتفع بمقدار /1320/م عن سطح البحر، هو دير سرياني قديم يبعد مسافة ثمانين كيلومتراً عن "دمشق" باتجاه الشمال الشرقي، ويبعد عن مدينة "النبك" حوالي /15/ كيلومتراً باتجاه الشرق عن طريق "العرقوب"».
وعن سبب التسمية يتابع الأب "باولو": «تخبرنا رواية تقليدية عن سبب تسمية الدير باسم "مار موسى الحبشي" أن القديس (الولي) "موسى" كان ابناً لملك من ملوك الحبشة، أراد أبوه أن يزوجه وأن يعده لخلافته على العرش، فرفض "موسى" التاج الملكي والأمجاد الدنيوية وترك بلاده باحثاُ عن ملكوت الله، فهاجر إلى "مصر" ثم ترهب في دير "مار يعقوب" بالقرب من "قارة" شمالي "النبك" ثم أتى إلى وادي الدير وأقام في إحدى مغاوره متنسكاً، إلى أن استشهد الراهب الحبيس "موسى" على يد جنود الإمبراطور الروماني آنذاك».
ويحدثنا الأب عن أهم المحطات التي مر بها الدير من ناحية التطور العمراني فيقول: «تدل الكتابات العربية على جدران الدير على أن بناء الكنيسة الحالية يعود إلى سنة /450/
للهجرة، أي إلى السنة /1058/ للميلاد، وفي القرن الخامس عشر، أعيد ترميم الدير وأضيف قسم جديد عليه، واستمرت الحياة الرهبانية فيه حتى عام /1831/م، حيث هجر آخر رهبان الدير المكان، وتُرك فارغاً فحوله الرعاة إلى ملجأ لهم ولمواشيهم، وعلى الرّغم من خلو الدير من سكانه، ظل أهالي مدينة "النبك" يزورونه بتقوى وورع، وبقي الدير وقفاً كنسياً لمطرانية "حمص" و"حماة" و"النبك" للسريان الكاثوليك».
يتابع الأب "باولو": «في عام /1982/ جئت إلى الدير وكانت لدي رغبة شديدة لأخدم هذا الوطن، لكونه النموذج العالمي للتعايش السلمي الجميل، وحسن الجوار، ووجدت في هذا الدير الملعب- إن صح التعبير- لكي نجسد هذه الفكرة، انطلاقاً من حياة الصلاة والتقوى والالتزام بإصلاح البيئة، لأن البيئة لا تنفصل عن التقوى، فالبيئة هي الأولوية الحتمية لنا جميعاً مسيحيين ومسلمين».
ومن هذا المنطلق يضيف رئيس الدير: «عملنا جميعاً على إعادة ترميم البناء منتصف الثمانينيات بمساهمة من الدولة السورية والكنيسة المحلية وعدد من المتطوعين العرب والأوروبيين، فتم ترميم مبنى الدير الأثري عام /1994/ ثمرة للتعاون بين سورية وإيطاليا وكان قد أعيد تأسيس جماعة رهبانية فيه عام /1991/».
السيد "جورج داوود" أحد العاملين في الدير يصف لنا كنيسة الدير ورسوماتها الجدارية فيقول: «يعود تاريخ بناء كنيسة "دير مار موسى الحبشي" إلى منتصف القرن الحادي عشر، وهي تتألف من قسمين: صحن الكنيسة ويتألف من ثلاثة أروقة، تفصل بينها
أعمدة مربعة الشكل، وتنير الرواق الأوسط نافذة عالية كبيرة نسبياً في الجدار الشرقي، أما القسم الثاني وهو قدس الأقداس فيضم الهيكل والمحراب، ويفصله عن صحن الكنيسة حاجز قسمه السفلي من الحجر والعلوي من الخشب، وتظهر على جدران الكنيسة المزينة بالرسومات "الفريسك" ثلاث طبقات: الأولى تعود إلى منتصف القرن الحادي عشر، والثانية إلى نهاية القرن الحادي عشر، أما الطبقة الثالثة فتعود إلى مطلع القرن الثالث عشر، وهي الظاهرة والأكثر وضوحاً على الجدران، وهي تعبر عن الرؤية المسيحية لعلاقة الإنسان بالله في بعدي التاريخ المقدس ولحظة السر الدائمة».
لكن كيف تتم العناية بهذا الدير في أرض تكاد تكون قاحلة، ناهيك عن وعورتها وصعوبة الوصول إليها؟ يجيبنا الأب "باولو دالوليو": «عملنا طوال ستة أعوام بالتعاون مع مجموعة من الوزارات والمؤسسات الرسمية السورية على تحسين منطقة "دير مار موسى" باعتبارها منطقة وقاية حراجية بقصد حماية النظام البيئي الحراجي الطبيعي المتدهور كنطاق حيوي للتراث التاريخي والديني للدير بهدف الحفاظ على هذا التراث وتنمية السياحة البيئية والتراثية، من خلال مجموعة من المشاريع التي تحققت، منها حفر بئر ماء في المنطقة وتجهيزه وبناء خزان بسعة /200/ متر مكعب، وبناء مركز زوار وبيت المحمية بمساحة /480/ متراً مربعاً إضافة إلى مشاريع صغيرة كزراعة الأشجار وتجميل المنطقة، وبناء مؤلف من عدة طوابق يتصل بالدير بوساطة جسر معلق وقد بني من المواد المحلية لممارسة رياضة
التأمل، وكل منشآت الدير مفتوحة أمام الزوار والسائحين مجاناً، ويتم تمويل المشاريع المختلفة للدير من خلال التبرعات المادية والعينية إضافة إلى المنح الأوروبية».
السائحة الإيطالية "ساندرينا" وصفت زيارتها للدير بأنها رائعة وقالت:
(hard hot but wonderfull) لعل هذه الكلمات تلخص إلى أبعد حد رحلتنا إلى هذا الدير الذي يمكن وصفه "بدير البرية"، الواقع ضمن منطقة وقاية حراجية تبلغ مساحتها نحو /600/ هكتار إلا أن هذه الصفة ألغيت بتاريخ /10/شباط/2010/ بقرار من وزارة الزراعة بسبب انتهاء الأسباب الموجبة لإقامتها».