تغنت حلب بمجموعة من المكتبات فلم تنفرد عن المحافظات السورية بل انفردت أيضاً عن باقي الدول العربية بمكتبتها "الروحية".
تقول الطالبة "ايليانا عيد" سنة ثانية علم نفس: «زرتها عدداً من المرات ففيها يتوفر عدد من الكتب الفلسفية والنفسية ومنها توفر الكم الجيد من المعلومات والتي لا أجدها في الكتاب الجامعي وأستعين بها في حلقات البحث التي تطلب مني في الجامعة».
أما الطالب "نور ديب" سنة ثالثة لغة عربية من أحد رواد تلك المكتبة قد فيقول: «مدى استفادتي الفعلية من تلك المكتبة كبيرة والأهم منها هي الاستعارة الخارجية والتي تسهّل عليّ عملية القراءة وبتمعن كبير دون الحضور يومياً إلى المكتبة وضياع وقتي في الذهاب والإياب».
من جهته يحدثنا الأب "بيير مصري" مدير المكتبة عن سبب تفّرد "حلب" بها فيقول: «هي الوحيدة وليست في سورية وإنما في العالم العربي وكان هذا بمحض المصادفة حينما فكر الخوري "يوسف جمل" بأن يكون للكنيسة مكتبة عامة يرتادها القرّاء من مختلف الشرائح الاجتماعية، وبذلك قد خرج عن عادة الكنائس التي كانت تقتني المكتبات الخاصة المغلقة الغير مخصصة للعامة، وأراد أن تكون تلك الكتب المتوفرة لديه في متناول الجميع، وحول هذا قال "الأب جمل" مؤسس المكتبة لقد نشأت فكرة التأسيس حينما كنتُ على مقاعد مدرسة القديسة "حنة" في "القدس"، لكنَّ هذه الفكرة تبلورت حينما ارتسمتُ كاهناً في حلب /17 تموز 1938/ فكرَّست جزءاً كبيراً من عائداتي لهذه الغاية، وكنتُ أشتري كل عام الكتب الجديدة التي تصدر سواء في بلادنا أم في البلاد الأجنبية».
البدايات الفعلية للمكتبة
البدايات ترجع إلى حوالي عام /1956/ فبعد انتقال الخوري "يوسف جمل" إلى العزيزية عام /1954/ وضع الأب "يوسف" ما تجمَّع لديه من كتب، وكانت آنذاك حوالي /3000/ كتاب باللغتين الفرنسية والعربية، بتصرُّف المستعيرين من مُحبِّي المطالعة، وأضاف الأب "بيير" قائلاً: « كانت المكتبة تفتح أيام الآحاد فقط، ساعتين صباحاً وساعتين بعد الظهر، ثمَّ أضيفت ساعتان بعد ظهر الجمعة أيضاً، وقد أعلن الأب "جمل" استعداده لقبول الكتب الروحيَّة والثقافيَّة المستعملة ممَّن يرغب بإهدائها للمكتبة لكي توضع تحت تصرُّف القرَّاء، فانهالت عليه التقادم من الكتب المتنوِّعة بحيث بلغ
عدد الكتب بعد أقل من سنتين حوالي ثمانية آلاف كتاب منها ستة آلاف بالفرنسية والباقي بالعربية، هذا بالطبع إلى جانب الجرائد والمجلات والأسطوانات والأفلام التي كانت موضوعة أيضاً في خدمة الراغبين. فالمكتبة قد رُتِّبت في ثلاث غرف فالأولى للكتب والأخرى للمطالعة والثالثة للأفلام والتسجيلات، كما خصِّصت الباحة والأقبية للألعاب وعروض الأفلام وسواها من الأنشطة، وفي عام /1975/ قد احتفلت المكتبة بوصول رقم المشتركين فيها إلى ألف».
أنشطة المكتبة ومتابعة المسيرة
كانت المكتبة تتحوَّل خلال العطلة الصيفيَّة إلى ما يُشبه النادي اليومي للصغار، يجدون فيه مختلف وسائل الفائدة والتسلية، فإلى جانب الكتب العاديَّة والمصوَّرة المعروضة للمطالعة، كان هناك الألعاب الذهنيَّة على أنواعها (شطرنج، مسابقات، سكرابل..) والألعاب الحركيَّة مثل "البينغ بونغ" و"البيبي فوت" التي كانت تُجرى فيها بطولات وتُقَّدم كؤوس. يُضاف إلى هذا كلِّه عروض الأفلام الثابتة والمتحرِّكة أسبوعياً والأنشطة المتنوِّعة من رحلات وزيارات من حين إلى آخَر، وقد أكد الأب "بيير" بان الأب "حكمت جاموس" من عام /1976 ـ 2003 / قد تابع مسيرة الأب "جمل" من خلال تنظيمها وتوسيعها فقد صارت المكتبة شيئاً فشيئاً نوعاً من المركز الاستشاري، ناهيك عن تنظيم الكتب وإعادة تصنيفها لأن نمو قسم الكتب العربية كماً ونوعاً استدعى تأمين الأماكن اللازمة لترتيبها وقد قام الأب "حكمت" بالعمل على إنشاء نظام تصنيف محلي يتناسب مع محتويات المكتبة».
وعن سبب تسميتها بالمكتبة الروحية أوضح الأب "بيير": «على الأغلب كان الخوري "جمل" يفكر بالاختصاص بالكتب الروحية من اجل إظهار العلاقة الوثيقة بين الحياة الثقافية والحياة الروحية فكل أنواع المطالعة والثقافة التي يرتقي الإنسان بها هي نفسها تعمل على الارتقاء الروحي لديه لأنها وجهان لعملة واحدة».
وأضاف:«فمن بين كتب المكتبة يعود تاريخها إلى عام /1706/ وهي تاريخية وقد طبع منها آنذاك عشرة كتب وتوقفت بعد ذلك عن الطباعة ناهيك عن تفردنا ببعض الكتب الغير موجودة في المكتبات الأخرى منها سلسلة عالم المعرفة كاملة من المجلد الأول ومع مرور الوقت أصبحت المكتبة تهتم بمختلف أنواع الكتب الثقافية
والعلمية والأدبية مع حرصها الدائم على الجانب الديني سواء أكان مسيحي ـ إسلامي، والمكتبة الروحية تتميز عن المكتبات الأخرى بأنها تجمع ما بين العمومية والخصوصية فأغلب المكتبات المتوافرة هي مراكز ثقافية عامة والأخرى مكتبات خاصة أهلية ولكن هذه المكتبة قد اجتمعت فيها تلك الخاصيتين جهود شخصية وقراء عامة».
الاستمرارية والتواصل مع الآخرين
صلاتنا مع مختلف أفراد المجتمع ومنها مع الجامعات ولكن بشكل غير مباشر وأضاف "بيير": «تتم من خلال توافد الطلاب علينا من مختلف الاختصاصات وتتم لهم تنظيم أوقات معينة للمطالعة، وهذا عائد بسبب ضيق أمكنة المطالعة، فاستمرارية المكتبة تنبع من خلال متابعة مستعيري الكتب وإرجاعها في الوقت المحدد وهذا مما يؤدي إلى تقليل الخسارة الناتجة من الفقدان أو التلف».
الطموحات والآمال
تتمثل بمحورين وقد شرحها "بيير" «في المقام الأول الكتروني وهو تحويل المكتبة الروحية إلى مكتبة روحية رقمية لإيجاد محتوى المكتبة على شبكة الإنترنت وجعلها رقمياً بحيث يستطيع أي شخص في بيته تحميل أي كتاب موجود في تلك المكتبة وتصفحه دون عناء الحضور إلى المكتبة توفيراً للوقت، الثاني عملي بتخصيص ورشات عمل من اجل تشجيع وتحفيز الأجيال الصغيرة على القراءة والمساهمة على غرس قيم المعرفة من خلال المطالعة والمحافظة على هذه القيمة المعنوية والروحية والتي تراجعت في الفترة الأخيرة».
واختتم شاكراً:«قامت الحكومة منذ فترة لإغناء المكتبات المدرسية بالكتب المتنوعة ولكن هذه الخطوة يجب أن تستمر من خلال مضافرة كافة جهود المجتمع بكل أطيافه الاجتماعية للحفاظ على هذا الموروث الغني».
وعن رأي أمينة المكتبة الآنسة "مريانا بيطار" بالمكتبة وبمن ارتاداها:«إن الطلاب ينشطون في المكتبة وخصوصاً ما قبل الامتحانات من اجل الحصول على المراجع العلمية التي تغني أبحاثهم أو للحصول على المزيد من المعلومات، وأكثر الكتب التي تطلب هي علم الاجتماع والآثار، وبشكل عام كتب المكتبة هي كتب ثقافية عامة وليست اختصاصية وأما بالنسبة للكتب القديمة هي تاريخية بامتياز».
وأشارت أيضا: «بان الكتب والقصص الروائية تطلب من قبل الفتيات أكثر من الفتيان وهذه تكون بالفترة المسائية
على الأغلب، وتكون عملية الأرشفة للكتب من خلال مضمون الكتاب نفسه وليس على أساس اسم المؤلف فحينما يأتي إنسان من أجل المطالعة نسأله عن مضمون ذلك الكتاب فإن كان تاريخي نعطيه لائحة بمجموعة من الكتب التاريخية وإن كان ثقافي نعطيه القائمة بذلك».
واختتمت قائلة: «صعوباتنا في المكتبة تتمركز في عدم اهتمام بعض الطلاب لهذه الكتب من خلال ثني في أطراف الكتب أو كتابة ملاحظاتهم عليها متناسيين بأن هذه الكتب ليس مقتصرة على طالب واحد وإنما هي لجميع الطلاب في المكتبة بشكل عام، وحالياً قمنا بتحديد مدة الاستعارة الخارجية للكتاب بوقت محدد لإرجاعه حتى يتثنى لغيره من الحصول عليه في أقرب وقت».
والجدير بالذكر بأن المكتبة الروحية قد اصطبغت بصبغة الحداثة من خلال معاصرتها لأحدث الكتب المؤلفة حديثاً.