في منطقة الجميلية، شارع اسكندرون، مابين محليّ فلافل "النزهة" وفطائر "الرضوان" المقابلان لمحل المصور "ديكران" ، توجد لوحة معلقة فوق براد للماء، كتب عليها "هنا صرع رصاص الاستعمار الطالبين الشهيدين "أحمد القدسي"، و"عبد العزيز حاووط".
المئات يمرون يومياً، لكن قلة من انتبهوا لوجود اللوحة المرمرية، وقلة أيضاً من يعرفون أنه حصلت واحدة من القصص البطولية في هذا المكان، فإن مررتم يوماً بجانب هذه اللوحة توقفوا قليلاً، وترحموا..فلهذا المكان قصة سنرويها لكم.
البداية كانت في البحث عن الجهة التي وضعت اللوحة للتعرف من خلالها على قصة الطالبين الشهيدين، سيما أننا لم نتوصل إلى أية إجابات لدى سؤالنا المارة، أو جيران اللوحة فكل الإجابات كانت تتوزع بين «لا أعرف مطلقاً، معلوماتي ليست أكيدة، هذه أول مرة أنتبه فيها للوحة»، فتوجهنا إلى مختار الجميلية الذي لم يجد في سجلاته أي معلومة مفيدة، فنصحنا بالسؤال لدى مكتب الشهداء، لكن سجلاتهم أيضاً لم يدون فيها شيء، فكانت المحطة الثالثة "رابطة المحاربين القدماء" ومن هناك تم تحويلنا إلى رابطة رجال الثورة في منطقة السبيل، فكانت إجابة السيد "حسام عويد" المسؤول الاداري بالرابطة بأنهم مختصون بأسماء ثوار الشمال فقط.
وعند البحث والتقصي بشكل شخصي، استطعنا الحصول على عنوان لعائلة الشهيد "القدسي"، ومنها بدأ أول الخيط في الوصول إلى قلب الواقعة مباشرة.
فرنسا لا تخرج إلا بالدم
لم يكن الطالبان "أحمد بن علي القدسي" و"عبد العزيز بن سامي الحاووط" يعلمان أن الحادي والعشرين من أيار /1945/ سيكون الأخير في حياتهما، ذلك اليوم الذي مشيا فيه بضع خطوات مع زملائهم من مدرسة "المأمون" ـالتجهيز الأولى ـ إلى شارع اسكندرون.
يستعيد الدكتور "بدر الدين قدسي" تفاصيل يوم
استشهاد أخيه بقوله: «اجتمع مع زملائه في المدرسة وخرجوا بمظاهرة لمواجهة الانتداب "الفرنسي، متوجهين نحو شارع اسكندرون، مرددين عبارات ضد الانتداب الفرنسي، وبعد عشر دقائق اعترضهم موكب فرنسي بقيادة ضابط سرعان ما أخرج مسدسه وبدأ يطلق النار بشكل عشوائي، فأصاب جسد أخي "أحمد" فاستشهد مباشرة أما زميله "عبد العزيز" فقد أصيب معه أيضاً ولكن لم يستشهد على الفور»
ويكمل الدكتور "بدر الدين" وقائع ذلك اليوم قائلاً «يومها كان عمري عشر سنوات، وأذكر أنهم حين أحضروا النعش إلى البيت رأيت "أحمد" منحني الرأس والركبتين في داخل النعش لأنه كان أقصر منه، وقد رأيت بضع قطرات من الدم خرجت من صدره، فالرصاصة قد أصابت القلب مباشرة»
أما الأستاذ "منذر قدسي" أحد طلاب مدرسة التجهيز آنذاك فيحكي لنا القصة كما سمعها بقوله «كان "أحمد" في مقدمة الطلاب وقد أصيب باعتباره أطول الموجودين، كما أصيب أيضاً زميله "الحاووط" على الرغم من بعد المسافة عنه بحوالي /20/ متراً، وبعدها وقع الشهيدين وتفرقت المظاهرة، ثم جاءت دورية فرنسية مباشرة من اجل حماية الضابط»
وتكمل لنا السيدة "وداد" شقيقة الشهيد شريط الذكريات فتقول: «منزلنا كان في منطقة "السفاحية" ـ جوار القلعة ـ وكان "أحمد" يسير يومياً إلى الثانوية لعدم وجود أية مواصلات هناك، وقبل يوم من استشهاده كان ذاهباً مع أمي، حين شاهدوا إحدى المظاهرات، فالتفت إليه وقالت له لا تخرج مع أي مظاهرة وما كان عليه إلا رد
مجيباً فرنسا لا تخرج إلا بالدم، وفي العاشرة من صبيحة اليوم التالي وصلنا نبأ استشهاده».
أما عن أحلام الفتى ذو السابعة عشر ربيعاً، فتوضح لنا شقيقته بقولها «كان يخطط لدراسة الطب، بعد حصوله على الشهادة الثانوية»، ويكمل شقيقها "بدر الدين" رسم شخصية ونشاط وجرأة أخيهم من خلال حادثة فيقول: «حينما كان في الصف الثالث حصل على الدرجة الثانية، ولم يرض بذلك فذهب إلى مدير المدرسة واحتج قائلاً أريد الدرجة الأولى لأن أستاذي في الصف قد تقصّد منحي الدرجة الثانية وإعطاء الدرجة الأولى لأحد أقاربه، فقال له المدير وما هو دليلك على صحة هذا الكلام فقال أبارزه مرة ثانية في الامتحان فإن تفوقت عليه أخذت الدرجة الأولى، وفعلاً هذا ما كان، يومها قال المدير لوالدي متعجباً من جرأته، فكيف لطفل في الصف الثالث أن يضع حلولاً لتلك المشكلة غير مكتفياً بالدرجة التي حصل عليها».
من الذي وضع اللوحة المرمرية
جاء في الصفحة 52 من كتاب بعنوان "تاريخ العائلة" لمؤلفه أحمد بن نافع القدسي توثيق لحادثة الاستشهاد، كما يذكر أيضاً قصة وضع اللوحة بالقول «أذكر أنني سمعت من ابن عمي السيد "بسيم" بأنه هو الذي سعى لوضع اللوحة، إذا اتصل برئيس بلدية حلب آنذاك ونبهه إلى وجوب ذلك تقديراُ لخلود الشهادة، وكما توجد لوحة مماثلة تتصدر الفناء الرئيسي في ثانوية المأمون تتضمن عبارات مفادها أن الشهيدين من تلاميذها».
ويستطرد الدكتور "بدر الدين"موضحاً أنه قبل
وضع اللوحة الحالية كان يوجد مكانها علبة للكهرباء، قام رسام اسمه "حكمت شعبان" بتخطيط اسم الشهيدين عليها، وحين أزيلت تلك العلبة تم وضع اللوحة المرمرية بجهود ابن عمي "بسيم" ويضيف: «سمعنا أن هناك مشروع لإقامة نصب تذكاري في مكان الحادث مسيجاً بحديقة من أمامه، لكني لا أعرف لماذا طوي الموضوع».
جدير ذكره أن مدرسة المأمون لا تزال تحتفظ بصورة الشهيد "أحمد القدسي" أما صورة زميله "عبد العزيز حاووط " فلم نجدها، كما لم نستطع العثور على أية تفاصيل أو معلومات أخرى.