عند الحديث عن البدايات الجادة لتاريخ النحت المعاصر في سورية لا بد لنا من الوقوف عند تجربة الفنان "فتحي محمد" باعتبارها تمثل النواة الهامة التي أسست لهذا النوع من الفن، فأعماله الفنية التي أنجزها بين أعوام 1936-1958 تشير إلى أهمية هذا الفنان لكونه أحد الرواد البارزين في التشكيل السوري في القرن العشرين.
فمن هو الفنان والنحات "فتحي محمد قباوة" وما دوره في تاريخ الفن الحلبي خصوصاً والسوري عموماً وما أهم الأعمال التي أنجزها خلال مسيرته الفنية؟
هذه الأسئلة وغيرها طرحها موقع eAleppo على الباحث والفنان التشكيلي المعروف "طاهر البني" وذلك خلال اللقاء الذي تم في "قصر جحا"- ملتقى فناني وأدباء ومثقفي "حلب".
يقول الأستاذ "البني" حول بدايات المرحوم "فتحي محمد": «لقد شهد "حي الشماعين" البدايات الأولى للفنان "فتحي محمد قباوة" حيث ولد فيه في العام 1917م و"حي الشماعين" هو حي شعبي عريق يقع بين "باب الجنان" و"حي المشارقة" وقد انتشرت في جنباته بعض الفواخير التي كانت تُعنى بصناعة الآنية الفخارية والتي شكلت المسرح الأول لعبث فناننا بمادة الطين وتشكيلها وأيقظت لديه الرغبة في النحت والتشكيل حيث كان يقضي الساعات الطوال يحدق في هذا المشهد الغريب ثم يأخذ بعض الطين محاولاً أن يصنع منه دمى صغيرة يتسلى بها.
توفي والده وهو في الأشهر الأولى من عمره ثم توفيت والدته وهو في الثانية عشرة /الصف الخامس الابتدائي/ لذلك كان عليه أن يعمل كي ينفق على نفسه ودراسته فاختار مهنة حفر الخشب وبذلك تشكلت لديه الأدوات الأولى لفن النحت والحفر حيث أظهر براعة متميزة في ذلك، وسنحت له الفرصة في التعرّف على المبادئ الأولية لفن الرسم والتصوير حين كان طالباً في /التجهيز الأولى/ من خلال إشراف الأساتذة "منيب النقشبندي" و"غالب سالم" و"وهبي الحريري".
في العام 1944 فاز "فتحي محمد" بجائزة المجمع العلمي في دمشق عن تمثاله "أبو علاء المعري" وفي نفس العام سافر للدراسة في مصر بتوصية من الأديب المعروف "طه حسين" الذي انبهر بهذا التمثال وهناك انتسب إلى فرع التصوير في مدرسة الفنون الجميلة العليا بالقاهرة وعلى الرغم من فرحه بتحقيقه هدفه المنشود إلا أنه كان يعاني ظروفاً مادية صعبة لذا اضطر إلى بيع بعض كتبه وأدواته الضرورية كي يستمر في دراسته
وإقامته بل إنه باع بعض جوائز التفوق التي حظي بها.
وفي العام 1947 توفي الزعيم الوطني "سعد الله الجابري" فاستدعته بلدية حلب ليعمل له تمثالاً أنجزه في العام 1948 بعدها أقنع رئيس بلدية حلب المرحوم "مجد الدين الجابري" المجلس البلدي بإيفاده إلى روما على أن يعود ليعمل لحساب البلدية مدة ثلاث سنوات وبذلك سافر "فتحي محمد" إلى إيطاليا محطته الخارجية الثانية بعد مصر، وفي ايطاليا دهشت لجنة القبول من إنجازه لامتحانه الأول في يوم واحد بدل من ثلاثة أيام ما أهّله لدخول السنة الثانية مباشرة وحين خضع للدراسة الأكاديمية كان يبدي قدرات متميزة جعلته يجتاز الفحص النهائي في العام 1949.
وفي العام 1950 أنجز "فتحي محمد" تمثال /المفكرة/ بإشراف رئيس قسم النحت الأستاذ "غويريزي" واستحوذ على إعجابه وفي نهاية العام 1951 صرف جل وقته واهتمامه لتقديم مشروعه في عمل تمثال يافع يظهر فتوته وخصائصه الجسدية والروحية فاستحق العلامة التامة ونال شهادة الدبلوم بدرجة شرف.
وفي العام 1951 عاد "فتحي محمد" إلى "حلب" ليقضي فيها فترة وجيزة ثم عاد إلى روما لدراسة فن الميدالية حيث انتسب إلى مدرسة فن الميداليات كما انتسب إلى الأكاديمية في فرع التصوير الزيتي وأنجز عدة ميداليات من أبرزها ميدالية /الغفران/ التي نال عليها شهادة الدبلوم».
ويضيف "البني": «عاد "فتحي محمد" إلى حلب في العام 1954 ليعمل في بلديتها كخبير ثم أوفد إلى دمشق ليعمل تمثالاً للشهيد "عدنان المالكي" ولكنه اضطر أن يعود إلى "حلب" ويدخل مشفى القديس "لويس" في الثامن من آذار سنة 1958 وهو يعاني من آلام في معدته ويستسلم للموت في السادس عشر من نيسان من نفس العام إثر عملية أُجريت له لاستئصال ورم خبيث في أمعائه».
وحول تجربة الفنان المرحوم "فتحي محمد" الفنية يقول "البني": «على الرغم من أنّ تجربة الفنان "فتحي محمد" لم تعمّر طويلاً بفعل الموت الذي اختطفه وهو في
الحادية والأربعين من عمره إلا أنها تفصح عن الطاقات الإبداعية الهامة التي توافرت له في ميدان النحت والتصوير وفن الميدالية ولا أدل على ذلك من تلك الأعمال الإبداعية التي ضمها متحف "فتحي محمد" في مدينة حلب وتلك النصب والأعمال النحتية التي توزعت بين حلب ودمشق والقاهرة. لقد ظهر إخلاصه للثقافة الفنية التقليدية في بواكير إنتاجه التي سبقت دراسته في مصر كما في تماثيله /"هنانو"- "المعري"- "شوفاليه"/ حيث حرص فيها على المطابقة بين الطبيعة المتمثلة بالصور التي أخذ عنها أو ملامح الشخوص التي استعان بها لإنجاز تمثال "المعري" وفي كلا الحالتين يبرز قدرة فائقة في تجسيد هذه الملامح الواقعية الموضوعية مع ميل واضح للصياغة التزيينية التي استمدها من مهارته في الحفر على الخشب واطلاعه على منجزات النحت الإغريقي والروماني والايطالي.
ومما لاشك فيه أنّ دراسته في مدرسة الفنون الجميلة العليا في القاهرة تركت أثرها في تعميق جذوره الأكاديمية التي حرص فيها على محاكاة الأشكال دون المساس بملامحها الصورية وهذا ظهر جلياً في تمثال "سعد الله الجابري"، وفي روما كان خضوعه للدراسة الأكاديمية وتعرّفه على إنتاج الفنانين الغربيين عوامل مساهمة في إغناء فهمه للعمل الفني وإدراكه أنّ الأمر لا يقتصر على البراعة في المحاكاة للملامح الفيزيائية للشكل بل أنّ هناك أموراً أهم من ذلك تتمثل في الحركة والإيقاع البصري التي تثيره علاقة الكتلة بالفراغ وتنوع السطوح في الأشكال وهي تعكس جوانب حيوية وقيماً تعبيرية وروحية تكسب العمل الفني قيمة أكبر وحضوراً أفضل وقد انعكس هذا في انجازه الهام لتمثال /المفكرة/».
وحول أشهر الأعمال والمنحوتات التي أبدعها "فتحي محمد" يقول: «أول ما صنعه هو /الزنبقة/ رمز الكشاف ثم صنع تمثالاً لرأس الزعيم الوطني "إبراهيم هنانو" كما صنع ميدالية من الجص لصورة الزعيم "هنانو" وأهداها للزعيم "سعد الله الجابري" الذي وعده بإيفاده للدراسة خارج سورية بعد أن لمس منه موهبة حقيقية حين
رسم له ملامح وجهه بسرعة فائقة في إحدى المناسبات الوطنية، وفي الظروف التي تعاظم فيها النضال ضد الفرنسيين أخذ "فتحي محمد" يسهم في هذا النضال من خلال الرسوم الكاريكاتورية كما شرع يرسم رسوماً توضيحية وتزيينية لعدد من مؤلفات الشعراء والأدباء في حلب، ومن منحوتاته الشهيرة المعري- شوفاليه- سعد الله الجابري- هنانو- عدنان المالكي- المفكرة- المضجعة- اليافع- الموجة، إضافة إلى عشرات اللوحات العارية بالألوان الزيتية وعشرات المحفورات والميداليات».
ويختم: «فاز الفنان "فتحي محمد" بعدة جوائز أهمها جائزة المجمع العلمي العربي بدمشق على تمثال "أبو علاء المعري" الموجود حالياً في دار الكتب الوطنية بحلب 1944 والجائزة الأولى في معرض خريجي الأكاديميات الايطالية في نابولي 1951».