[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] ربما لن يكون باستطاعتنا أبداً أن نعرف ما جرى ليسوع بعد أن أُودع على عجل في قبر مؤقت قريب من موضع الصلب في أرض يملكها يوسف الرامي. الأمر الوحيد الذي يمكننا التثبت منه وتتفق عليه الروايات الأربع، هو أن القبر وُجد فارغاً في صباح اليوم الثالث للصلب، وفي ما عدا ذلك فإنّ هذه الروايات تختلف فيما بينها في كل التفاصيل، كما تختلف مع سفر أعمال الرسل ومع أقدم رواية عن القيامة والظهورات وهي رواية بولس. وإذا كان باستطاعتنا تفسير القبر الفارغ بأن أحداً ما قد نقل جثمان يسوع إلى قبر آخر دائم في وقت ما من مساء اليوم الثاني، وهو تفسير يتفق مع منطق الأحداث، فإن ما تبقى من القصة لا يمكن إخضاعه للبرهان، لأنه ينتمي إلى مجال الإيمان والتقوى الدينية. ومع ذلك فلا بد لنا من عرض تفاصيل هذا اللغز، لا من أجل حلّه وإنّما من أجل توضيح أبعاده.
في الرواية الإنجيلية الأقدم وهي رواية مرقس، يقدم لنا المؤلف سرداً واقعياً خاليا من المعجزات والظواهر الخارقة. فعند طلوع شمس اليوم الثالث، جاءت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة إلى القبر من أجل إتمام طقوس الدفن، فوجدن الحجر مدحرجاً عن مدخله. وعندما ولجن أبصرن شاباً جالساً عليه ثياب بيض فاندهشن. فقال لهن: لا تندهشن. أنتن تطلبن يسوع الناصري المصلوب. قد قام، ليس هو ههنا. لكن اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل، هناك ترونه كما قال لكم. فخرجن سريعاً وهربن من القبر لأن الرعدة والحيرة أخذَتاهما، ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كن خائفات (مرقس 16: 1-8).
على هذه الطريقة ينتهي إنجيل مرقس في أقدم نسخ متوفرة منه (راجع بحثنا السابق: خفايا إنجيل مرقس). ولكن بعض النُسَّاخ المتقدمين الذي لم ترضيهم هذه الخاتمة المفتوحة، قاموا في زمن ما من القرن الرابع الميلادي بتدبيج خاتمة للنص، تحكي عن قيامة يسوع من بين الأموات وظهوره لتلاميذه. وهناك اتفاق عام بين الباحثين في العهد الجديد على عدم أصالة هذه الخاتمة وعدم اتفاق لغتها اليونانية مع أسلوب مرقس. وقد تعاملت الترجمات الإنكليزية الحديثة للعهد الجديد مع هذه المشكلة بطرق متنوعة. فمعظمها يضع الخاتمة المضافة مع إدخال حاشية تشير إلى أن نص مرقس الأصلي ينتهي مع الآية 8 من الإصحاح الأخير. وبعضها وضع هذه الخاتمة بين مزدوجتين مع حاشية. أما الترجمة الأكثر اعتماداً لدى الباحثين في أميركا والمعروفة بالترجمة المعيارية المنقحة، فقد حذفت في طبعتها الأولى الصادرة عام 1946 الخاتمة من المتن ووضعتها ضمن حاشية في أسفل الصفحة، ولكنها أعادتها في الطبعات اللاحقة إلى المتن مع إضافة حاشية، بعد عاصفة ثارت في الأوساط الدينية على هذا الإجراء.
ويبدو أن هذه الخاتمة المفتوحة لم تُرضِ من قبل أيضاً بقية الإنجيليين، فعملوا على تطويرها. فحتى لو كانت خاتمة مرقس الأصلية تشير ضمناً إلى أن النساء الثلاث قد مضين إلى بقية التلاميذ وأخبرنهم بخبر القبر الفارغ، فإن مصداقية الخبر تبقى معتمدة على ما قاله شاب مجهول وُجد في القبر، وما نقلته عنه ثلاث نسوة غير موثوق بشهادتهن، لأن شهادة النساء عند اليهود في تلك الأيام كانت موضع شك ولا يؤخذ بها في كثير من الأحيان. ولذلك فقد عمد متّى في روايته إلى استبدال الشاب المجهول الذي تحدث إلى النسوة في القبر، بملاك هبط من السماء في زلزلة شديدة وجاء إلى الحجر فدحرجه عن المدخل وجلس عليه، ثم أخبر المرأتين اللتين جاءتها لتفقد القبر (في رواية مرقس كن ثلاث نسوة) وقال لهن إن يسوع قد قام من بين الأموات، وأن عليهما أن ينقلا هذه الخبر لبقية التلاميذ ويقولا لهم بأنه سوف يسبقهم إلى الجليل وهناك يرونه. ولكي لا يبقى خبر القيامة معتمداً على شهادة الملاك، فقد جعل متى يسوع يتراءى للمرأتين على الطريق ويقول لهما أن يذهبا إلى إخوته ويقولا لهم أن يمضوا إلى الجليل وهناك يرونه (متى 28: 1-10).
وبعد ذلك يذهب التلاميذ إلى الجليل إلى الجبل الذي جعله لهم يسوع موعداً، فلما رأوه سجدوا له ولكن بعضهم ارتابوا (متى 28: 16-17). أما لماذا ارتاب بعض التلاميذ فلأن يسوع لم يكن يظهر بشكله الذي عهدوه في حياته، على ما سنرى في بقية الظهورات.
فإذا جئنا إلى لوقا نجده يتحدث عن عدد غير محدد من النسوة أتين لتفقد القبر بينهن نسوة مرقس الثلاث، ليجدن أن الحجر كان مدحرجاً عن مدخله. ولكن ملاك متى الذي نزل في زلزلة من السماء لم يكن جالساً عليه، وبدل الملاك الواحد رأى النسوة ملاكين داخل القبر الفارغ قالا لهن: لماذا تبحثن عن الحي بين الأموات؟ إنه ليس هَهُنا بل قام. فرجعن من القبر بهدوء هذه المرة ولم يكن خائفات كما كان حالهن في رواية مرقس، وأخبرن الأحد عشر والآخرين جميعاً. ولكن على الرغم من كثرة النسوة اللواتي رأين القبر الفارغ، فقد بدا للبقية هذا الكلام "ضرباً من الهذيان ولم يصدقوهن". وكان لا بد من تثبيت شهادة رجل تؤكد شهادة النساء، فأسرع بطرس إلى القبر ورأى بأم عينه القبر الفارغ. وبعد ذلك تراءى يسوع لاثنين من التلاميذ كانا ذاهبين في ذلك اليوم إلى قرية قريبة من أورشليم ومشى معهما، ولكنها لم يعرفاه إلى أن دعوه إلى الطعام فجلس معهما وكسر الخبز وناولهما، فانفتحت أعينهما وعرفاه ولكنه توارى عنهما. فقاما ورجعا إلى أورشليم من ساعتها فوجدا التلاميذ مجتمعين في البيت. وبينما هما يقصان عليهما ما جرى لهما ظهر يسوع بينهم فجأة وحياهم، فخافوا وظنوا أنهم يرون روحاً. فقال لهم: "ما بالكم مضطربين؟ انظروا إلى يدي ورجلي، أنا هو بنفسي. إلمسوني وتحققوا فإن الروح ليس له لحم ولا عظم." ثم أكل معهم وقال لهم أن يبقوا في أورشليم ولا يغادروها. ثم خرج بهم إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم، وبينما هو يباركهم انفرد عنهم وصعد إلى السماء (لوقا 24).
في رواية يوحنا مريم المجدلية وحدها جاءت إلى القبر في صباح اليوم الثالث لترى الحجر مدحرجاً والقبر فارغاً. فهرعت إلى بطرس والتلميذ الحبيب وقالت لهما: "أخذوا السيد من القبر ولا ندري أين وضعوه." أي أنها عرفت أن أحداً ما قام بنقل الجثمان إلى قبر آخر. فأسرغ التلميذان وتأكدا من شهادة مريم ثم رجعا إلى موضعهما. أما مريم فبقيت عند القبر تبكي. ولما انحنت إلى داخل القبر رأت ملاكين بثياب بيض فقالا لها: يا امرأة ماذا يبكيكِ؟ فقالت لهما: "أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه." ثم شعرت بأن أحداً يقف وراءها، فالتفتت ورأت يسوع ولكنها لم تعرفه وظنت أنه البستاني الذي يعمل في أرض يوسف الرامي. فقالت له: "يا سيد، إن كنت أنت قد حملته فقل لي أين وضعته لآخذه. قال لها يسوع: مريم. فعرفته وقالت: يا معلم. فقال لها: لا تلمسيني لأني لم أصعد بعدُ إلى أبي." فسارعت المجدلية وأخبرت التلاميذ بما رأت. ولما كانت عشية ذلك اليوم، كان التلاميذ مجتمعين والأبواب مغلقة خوفاً من اليهود، فظهر يسوع بينهم فألقى التحية وأراهم موضع المسامير في يديه وأثر الطعنة في جنبه، ثم اختفى. وبعد ثمانية أيام ظهر لهم بالطريقة نفسها وطلب من توما (الذي لم يكن حاضراً في المرة السابقة ولم يصدق رواية زملائه) أن يضع إصبعه في يديه وفي خاصرته ويتلمس موضع الجروح. وبعد فترة لا يحددها المؤلف ظهر يسوع للمرة الرابعة للتلاميذ ولكن في الجليل عندما كان سبعة من التلاميذ يصطادون في سفينة بطرس، ثم جلس معهم وأكل سمكاً مشوياً. وبعدما تغدوا ودّعهم واصطحب بطرس معه إلى مكان غير محدد (يوحنا: 20-21).
من هذه الروايات الأربع نستنتج أن يسوع بقي مع تلاميذه بضعة أيام قبل أن يغادرهم. أما في سفر أعمال الرسل فإنه يبقى معهم مدة أربعين يوماً. نقرأ في مقدمة السفر: "رويتُ في كتابي الأول ياثاوفيلوس (الإشارة هنا إلى إنجيل لوقا) جميع ما عمل يسوع وعلَّم منذ بدء رسالته إلى اليوم الذي رُفع فيه إلى السماء بعدما ألقى وصاياه إلى الذين اختارهم رسلاً بدافع من الروح القدس. ولهم أظهر نفسه حياً بكثير من البينات وتراءى لهم مدة أربعين يوماً بعد آلامه، وكلمهم عن ملكوت الله. وبينما هو يأكل معهم أوصاهم ألا يبرحوا أورشليم بل عليهم أن ينتظروا فيها ما وعد الآب به… وما إن قال هذا حتى رُفع بمرأى منهم وأخذته سحابة عن أعينهم. وبينما عيونهم شاخصة إلى علٍ وهو يذهب عنهم، إذا رجلان بثياب بيض قد مثلا وقالا لهم: أيها الجليليون ما لكم قائمين تنظرون إلى السماء؟ فيسوع هذا الي رُفع عنكم سيعود كما رأيتموه ذاهباً." (أعمال 1: 1-11).
تبقى أخيراً رواية بولس عن القيامة والظهورات وهي أقدم الروايات. فقد وردت في رسالته لأهالي كورنثة التي حررها نحو عام 57م، حيث نقرأ: "بلّغتُ إليكم قبل كل شيء ما تلقيته، وهو أن المسيح مات من أجل خطايانا كما جاء في الكتب، وأنه قُبر وقام في اليوم الثالث كما جاء في الكتب، وأنه تراءى لصخر (= بطرس) فالاثني عشر، ثم تراءى لأكثر من خمسئة أخ لا يزال بعضهم حياً وبعضهم ماتوا، ثم تراءى ليعقوب ثم لجميع الرسل. حتى تراءى لي آخراً." (1 كورنثة 15: 2-8).
وسنقوم فيما يلي بمقارنة عناصر رواية القيامة والظهورات كما وردت في الروايات الستّ.
القبر الفارغ | الشاهد الأول | الشخص الغريب في القبر | الشاهد الثاني |
مرقس | ثلاث نسوة | شاب يرتدي الأبيض | لا يوجد |
متى | امرأتان | ملاك واحد | لا يوجد |
لوقا | عدد غير محدد من النسوة | ملاكان | بطرس |
يوحنا | امرأة واحدة | ملاكان | بطرس والتلميذ الحبيب |
بولس/أعمال | لا يوجد | لا يوجد | لا يوجد |
من مقارنة هذه الروايات نجد أنها تتناقض في جميع عناصر قصة القبر الفارغ. فعدد الشهود في المرة الأولى إما امرأة واحدة أو امرأتان أو ثلاثة أو عدد غير محدد من النساء. والشخص الذي وُجد في القبر أو خارجه، إما شاب غير محدد الهوية أو ملاك واحد أو ملاكان. وشهادة النسوة إما لم تدعّم بشهادة أخرى أو أنها دُعمت إما بشهادة تلميذ واحد أو بشهادة تلميذين.
الظهورات ومكانها | الشاهد الأول | الشاهد الثاني | الشاهد الثالث | الشاهد الرابع |
مرقس | لا يوجد | لا يوجد | لا يوجد | لا يوجد |
متى | امرأتان/أورشليم | الأحد عشر/الجليل | لا يوجد | لا يوجد |
لوقا | تلميذان/أورشليم | بطرس/أورشليم | الأحد عشر/أورشليم | لا يوجد |
يوحنا | امرأة واحدة/أورشليم | الأحد عشر/أورشليم | الأحد عشر/أورشليم | 7 تلاميذ/الجليل |
بولس | بطرس/؟ | الرسل/؟ | تلميذ/؟ | 500 يعقوب وبقية الرسل |
أعمال | الأحد عشر/أورشليم | عدد غير محدد من الظهورات خلال 40 يوم |
تتفاقم هنا التناقضات التي تبدت لنا في قصة القبر الفارغ. فالشاهد الأول على قيامة يسوع إما امرأة واحد، أو اثنتان، أو تلميذان، أو تلميذ واحد، أو الأحد عشر. والمكان هو أورشليم. والشاهد الثاني إما الأحد عشر، أو بطرس وحده، أو الأحد عشر، والمكان إما في الجليل أو أورشليم. والشاهد الثالث إما الأحد عشر أو خمسمئة تلميذ. والمكان إما أورشليم أو مكان غير محدد. والشاهد الرابع إما سبعة تلاميذ، أو يعقوب ثم بقية الرسل. والمكان إما في الجليل أو في مكان غير محدد.
وهناك أمران ملفتان للنظر بشأن ظهورات يسوع، الأول هو أنه في بعض الظهورات لم يكن يبدو لناظره بشكله المعهود، ولذلك فإن المجدلية حسبته البستاني ولم تتعرف عليه إلا بعد أن تكلم معها. والتلميذان اللذان ظهر لهما وهما في الطريق إلى قرية قريبة من أورشليم لم يعرفاه وهو سائر معهما إلا بعد ساعة من الزمن عندما جلسوا لتناول الطعام.
والأمر المحير الثاني هو أن يسوع كان يظهر بهيئة جسمانية، ويؤكد لمن يراه أنه من لحم ودم، ويثبت ذلك بأن يتناول الطعام أمامهم ويدعوهم للمسه وتحسس مواضع الجراح في جسده. ولكنه في الوقت نفسه كان يتحرك مثل روح، فيظهر فجأة ثم يختفي كما ظهر، ويخترق الجدران والأبواب المغلقة، ويرتفع إلى السماء مخترقاً قانون الجاذبية الذي يحكم الأجساد المادية. فعلى أي الحالين كان يسوع بعد قيامته؟ وهل كانت قيامته قيامة روح أم قيامة جسد؟
الصعود إلى السماء | الشاهد | المكان |
مرقس | لا يوجد | لا يوجد |
متى | لا يوجد | لا يوجد |
لوقا | الأحد عشر | بيت عنيا |
يوحنا | لا يوجد | لا يوجد |
أعمال | الأحد عشر | أورشليم |
بولس | لا يوجد | لا يوجد |
نلاحظ هنا أن لوقا وحده قد أثبت صعود يسوع إلى السماء أمام تلاميذه، وذلك في العملين المنسوبين إليه؛ وهما إنجيل لوقا وأعمال الرسل. ولكن حتى هنا فإن رواية الصعود في الإنجيل تتناقض مع رواية الصعود في أعمال الرسل. ففي الإنجيل يخرج يسوع مع تلاميذه إلى بيت عنيا، وهناك: "باركهم، وبينما هو يباركهم انفرد عنهم وصعد إلى السماء." وتعبير "انفرد عنهم" يتضمن أن يسوع كان وحيداً عندما صعد إلى السماء وأن أحداً من التلاميذ لم يشهد هذا الصعود. أما في رواية الأعمال فإن صعود يسوع يجري في أورشليم وأمام أعين التلاميذ الشاخصة أبصارهم إلى السماء.
إلى أين يقودنا كل ذلك؟ في الحقيقة إلى لا مكان. فقصة الإنجيل تنتهي على الطريقة التي أنهاها بها مرقس أي عند القبر الفارغ. وهذه واقعة يمكن تفسيرها بأن من كان مسؤولاً عن الدفن السريع والمؤقت، هو الذي أكمل إجراءات الدفن الرسمي ونقل جثمان يسوع إلى قبر دائم قبل أن يعرف التلاميذ بما حصل. وهذا ما سبب حيرة من جاء أولاً لتفقد القبر ووجده فارغاً. أما فيما يتعلق ببقية القصة من ظهورات يسوع وارتفاعه إلى السماء بهذا الجسد البشري، فليس بمقدورنا ترجيح إحدى الروايات، ولا حتى التوفيق فيما بينها في رواية واحد متسقة.
لقد قام يسوع من بين الأموات حقاً وصدقاً، ولكن قيامته لم تكن قيامة جسدية وإنّما قيامة روحانيّة. وهذا ما سوف نستكمله في البحث القادم