انتظرته حتى فرغ من صلاته، أومأ إليَّ أن اجلس، طوى
المصلاة وألقاها على غصن يتدلى ، سوّى عقاله، وبحركة خاطفة منه ، ألقى بطرفي
منديله الأبيض على كتفيه ، تفحّص الحقل المترامي أمامنا ، ثم تربّع تحت التوتة
العزيزة على قلبه، وبينما هو يحضّر لفافة التبغ
ـ تريد أن تسمع قصتي مع الآغا إذن .. طيب انصت وكن
مستمعاً جيداً
أشعلها وفرت عصافير من أعالي الأغصان فوقنا
تلك القصة، كان قد رواها عشرات المرات، بل مئات المرات،
وفي كل مرة يجتهد كي يرويها بطريقة جديدة ، مختلفة ، تضفي عليها مزيداً من المتعة
والتشويق
وعلى الفور أظلته سحابة من ذكريات وأوجاع، وعادت الجذى
المطفأة في داخله إلى الاشتعال وارتعشت تغضنات وجهه الطولية والعرضية، تناول سبّحته
وأخذت تفرقع بين أصابعه
ـ آه من تلك الأيام السحيقة يابني
شعرت أن تلك الآهة الحارة قادمة من قيعان ذلك الماضي
الحي ، الذي مازال يتحرك في أعماقه
ـ صحيح أنها كانت أيام المذلة والمهانة، لكنها كانت أيام
الرجولة والقوة أيضاً، فعمك الذي يحدثك الآن، كانت الأرض تهتز لوقع خطواته،
والنساء يرتعدن لمجرد رؤيته، أقول لك كانت أيام الرجولة، والآن كما ترى الشيخوخة
فعلت فعلها
واستشاط غضباً، تفل على يساره، ولعن الشيخوخة، ولأن
الأرواح دائماً فتية، فلقد سرحت روحه بعيداً تمزق طبقات الزمن وتتوغل بين تلافيفه
كان الجو مشبعاً بعبق الأزاهير الصيفية الشقية ، التي
تشاكس الفلاحين في وجودها، والسنابل المثقلة بحبات القمح المكتملة تتماوج مع كل
نسمة، مصدرة موسقة رتيبة، وعلى ذؤابات التوتةكانت حباتها تلمع ناضجة، وعصفوران بين
عدة أغصان يتغازلان بعيداً عن الهجير الذي يتلألأ فوق الأرض
راح العم أبو معروف يستحضر الوقائع والأحداث، نابشاً
خزانة ذاكرته العتيقة، بدأ بنفسه، ثم أسرته وأحوال الناس آنذاك، إلى أن أمسك بطرف
قصته التي جئت لسماعها
ـ يا بني ما كنا نفرغ من استعمار حتى يكون غيره، لكن أن
يكون عدوك من لحمك ودمك فهذا والله من أشد المصائب قسوة على القلب والعقل، ولهذا
لم تطل استراحتنا في بيوتنا الطينية، وفي أحضان زوجاتنا ، المسكينات،لم تكن
أنفاسنا قد أدفئت صدورهن بعد، تنكبنا بنادقنا من جديد وخرجنا تصحبنا أدعيتهن
ولعناتهن، فرحت الجبال بلقائنا مجدداً وانفجر القتال مرة أخرى
وهنا بدأت تنسكب في داخلي صور القرى النصف متفحمة ،
وسكانها الذين حوّلهم الجور ، والاستبداد ، إلى أنصاف بشر، يعيشون تحت رحمة أكف
أسيادهم التي لا تعرف سوى تلقي القبل ، وتوجيه الصفعات
ـ تحصّن الأوغاد في قصورهم وضيقوا الخناق على الفلاحين
الذين هم أهلنا، وتناهت إلى أسماعنا أخبارهم التي كانت تقطر أسىً، ففي قرية الشيخ
علوان لفظ أحدهم أنفاسه الأخيرة تحت سياط الآغا، وفي قرية الحزوانية داهم الطلق
إحداهن وهي تحصد أرض الآغا، تمرغ جسد طفلها بالتراب وقطعوا سرته بالمنجل، وفي قرية
أخرى اغتصب زلمة الآغا إحدى الفلاحات وفي وضح النهار .
كانت هذه الأخبار تلهب أحشاءنا، فنغير عليهم في الليل،
لكن يزداد بطشهم في اليوم التالي، وبعيداً عنا هناك في المدينة كانت طبخة ما تنضج
على نار هادئة
عبَّ سيجارته بعمق شديد، وتشبث بصره بمكان محدد، اعتقدت
أنه يتفحص شيئاً ما في الحقل أمامه لكني اكتشفت أنه ينظر إلى الفراغ ليس إلا
ـ لن أنسى ذلك اليوم الذي علمت فيه أن الآغا قد تطاول
على زوجتي أم معروف كان اللعين قد صفعها فسقطت كوفيتها، يومها طاش صوابي وغلت
الدماء في عروقي ،...غيري يصفعك ويسقط كوفيتك ياهدلة وأنا على قيد الحياة، فوالله
لا تجوز عليّ الصلاة إن أنا سكت، ولو كان الآغا قلتها وتكاد أسناني تطحن بعضها
طلبت أن نغير عليه في تلك الليلة لكن الرفاق لم يوافقوا،
توسلت إليهم وأنا أكاد أبكي من القهر، لكن القرار كان بالرفض القاطع، وأنه كرمى لي
سينال جزاءه قريباً، لم أستطع النوم ليلتها، كانت جيوش من النمل تتحرك في جسدي، إن
كرامتي تهان في القرية وأنا هنا مثل حشرة ألوذ إلى شقوق الجبال
لا يجب أن أفعل شيئاً،ولا أدري إن كان ملاكا ، أم شيطانا
، ذلك الذي أوحى إليّ بتلك الفكرة وقتها ، تنكبت البندقية وتسللت من الجبل وسلكت
درب القرية
وصلت إلى المقبرة وبداخلها أسندت ظهري لقبر الولي ولففت
سيجارة ودخنتها وأنا أعاين من مكاني بيت الآغا، كان الليل هادئاً ليناً والنجوم
تنحدر نحو الأفق كمصابيح علقت في الفضاء الأسود، طلبت البركة من الولي ومضيت
هنا صمت قليلاً ورفع رأسه، نظر إليّ مثبتاً عينيه في
عينيَّ مباشرة
ـ أنا عمك أبو معروف ذهبت إلى الموت على قدمي غير عابئ،
لأن كرامتي المهانة كانت تناديني هناك في غرفة الآغا فوق رأسه الحالم تماماً
،تريدني أن أثأر لها، وأنا أجبتها، تسللت كجني إلى الداخل ،متسلقاً الأسوار
والشرفات حتى صرت فوق رأسه، ,وإلى اليوم لا أدري كيف لم يشعر بوجودي أحد، أظن أن
بركة الولي
كانت تحلق فوق رأسي
وجدته سابحاً في نوم عميق ،ولحسن حظي أنه كان وحيداً في
الغرفة، وبلمح البصر جلست على صدره مثبتاً يديه بركبتي، استيقظ، أراد الصراخ، لكن
رأسه كان قد أصبح تحت الوسادة، متهالكاً عليه بكامل ثقلي، كنت ملثماً ،مضخماً صوتي
قدر المستطاع كي لا يتعرف عليّ، أعلمته أني لن أقتله إن هو أطاعني فيما أطلبه
فوافقني، قيدته جيداً ووضعت قطعة قماش في فمه، فأطرق صامتاً ، مشلول الحركة ،
أدركت أنه أصبح تحت سيطرتي الكاملة ، الآغا بعظمته ، وقوته وجلال قدره وبلعبة
صغيرة من القدر ، أصبح تحت رحمة فلاح حقير ، أليس هذا عجيبا يابني ؟ يالهذا القدر
اللاهي بمصائرنا
وهنا همست نفسي بين جوانحي(( إن من أفعال القدر التي
يستمتع بها ، أنه ينفخ في أحدنا حتى يبدو كبيرا عظيما ، غير قابل للهزيمة أو
الزوال ، ومن ثم يشيح بوجهه عنه ليسقط مع أول نسمة من برجه الشاهق ، فتنكسر رقبته
، أليس هذا دليلا ً على أننا تجاويف خاوية يحشونا القدر بأنفاسه الساخرة على هواه
؟ أو أننا كتلك الوريقات التي تذروها الريح ، غير مسؤولة عن حركتها ووجهتها ،
لكنها مكلفة في الشعور بالمتعة عند التحليق ، وبالألم عند السقوط))
ـ ليلتها تلاشى العالم بأكمله أمام عيني ، الثورة ،
الوطن الذي يترنح تحت عذاباته ، مآسي الفلاحين ، كلها اختفت، صدقني لم أكن أر شيئا
، سوى كوفية زوجتي الممرغة بالتراب ، وكأنني إذا انتقمت لها ، فإن الأمور بعد ذلك
ستكون كلها بخير
بصقت في راحتي ، وفركتهما بعنف ، أفعل ذلك عندما أنوي
القيام بأعمال كبيرة ، لكن ألا نكون صادقين مع بعضنا، عندما رأيته مقيدا كسبع في
الأغلال ، ذعرت روحي في صدري ، يا أخي إنه الآغا ، ولوهلة كدت اندم على فعلتي ،
ولكنني كنت قد عزمت ، وانتهى الأمر
تراقصت عيناه في رأسه، اللعين كان يظن أني سأقتله بين
اللحظة والأخرى، قررت أن لا أقتله، بل أن أهينه كما فعل معي، صفعته أكثر من مرة،
ثم قصصت طرفاً من شاربه تاركاً الطرف الآخر، وضعت الشعرات في منديلي الأبيض ووشمته
بختم الآغوية ثم خرجت كما دخلت وبركة الولي ترعاني
لمع السرور في عينيه ، وارتسمت ابتسامة على وجهه ، ثم
تطورت إلى ضحكة خافتة ، راح يتشاغل بلفافة أخرى ، كان العصفوران قد غادرا الشجرة ،
والشمس تسلقت الأفق الغربي منذ قليل ،ورائحة الطعام بدأت تصل إلينا من البيوت
الإسفلتية خلفنا ، نبح كلب وراء التخوم القريبة ، وتناهى إلينا خوار بقرة ، عائدة
من المراعي سعيدة
تفل بقايا الورق الشفاف العالق بشفتيه الذاويتين ،
واستدار نحوي
ـ عدت إلى الجبل وفي صباح اليوم التالي أرسلت المنديل
لزوجتي هدلة وهناك في القرية ملأ ضجيج زغرودتها السماء ، لم يعرف أحد سر تلك
الزغرودة لزمن طويل ، حتى لعن أسياد المدينة الجدد كل الآغاوات ، مزقوا سياطهم ،
ووزعوا أملاكهم على الفلاحين ، وكان نصيبي هذه الجنة ،لكنهم لم يعلموا أني كنت قد
أخذت حصتي من الآغا قبل ذلك الوقت
ثم انتفض من جلسته، كان قبل قليل قد قفز جندب صغير من
جذع التوتة ومكث على كتفه دون أن يشعر فسقط، سار نحو الحقل مسنداً أسفل ظهره
بيسراه، ينظر بنصف إغماضه من تحت راحته اليمنى إلى أحدهم ظهر في الطرف الآخر للحقل
وصاح به
ـ يكفي هذا .. أعكس المياه إلى الطرف الشرقي يا بني ..
ها ... أسمعتني ؟
ثم سوّى عقاله ، وبحركة خاطفة منه ، ألقى بطرفي منديله
الأبيض على كتفيه ، ومضى الوقت خفيفا
وفي مساء ذلك اليوم ، التقيت بصديقي ياسر ، الذي لا أحبذ
كثيرا تلك الجديّة التي تسكن فراديس وجهه ، والذي عاد لتأنيبي من جديد مذكّرا إياي
بأني رجل متعلم ، ولا تجوز لي مجالسة عجوز خرف مثل أبو معروف ينسب البطولات
الخرافية إلى نفسه ، بينما الحقيقة التي أعرفها ويعلمها الجميع ، أن رجال الآغا
كانوا قد
أوسعوه ضربا ليلتها ....!!!!!
قصة : مامد شيخو
[/right]