الحذاء
قصة: فرهاد شاكلي
ترجمة وتقديم: جلال زنكابادي
نبذة عن حياة الكاتب فرهاد شاكلي : ولد الشاعر، المترجم، والباحث فرهاد شاكلي عام 1951 في قرية شاكه ل/ قضاء كفري/محافظة كركوك، وقد اكمل مرحلة دراسته الإبتدائية في قريتهم، ومرحلتي دراسته المتوسطة والثانوية في كفري، واستكمل دراسته الجامعية ببغداد، ثم نال درجة الماجستير في السويد، حيث يقيم هنالك قرابة ثلاثة عقود، ويدرّس في جامعة اوبسالا منذ سنوات عديدة...
يعد فرهاد شاكلي مع لطيف هلمت من أوائل المجددين في حركة الشعرالكردي الحديث بعد (المرحلة الكورانية)منذ أواخرستينيات القرن الماضي...ولقد أصدر منذ 1973 باللّغتين الكردية والسويدية ست مجموعات شعرية، وحظيت العشرات من قصائده بالترجمة إلى عدة لغات :الانكليزية، السويدية، العربية، الفارسية، والتركية... وهو مترجم بين اللغات: الكردية، السويدية، الانكليزية، العربية، والفارسية، وقد ترجم خمسة كتب، كما أنه صحافي ايضاً، فضلاً عن كونه باحثاً؛ إذ نشرالعديد من بحوثه ودراساته الأدبية باللغات:الكردية، الإنكليزية، والسويدية، منها كتاباه: (الكوردايتي في مم وزين خاني)
و (النثر الفني الكردي)اللذان ترجما إلى اللغتين السويدية والتركية.
ولقد جرّب شاكلي قلمه في مضمار كتابة القصة القصيرة؛فحالفه النّجاح في بضع منها، وهي مجموعته(رائحة الظّلام )باللغة الكردية، والتي صدرت طبعتها الأولى عام1977-في ستوكهولم، وطبعتها الثانية في1999بأربيل، ومنها هذه القصة...
*********************************************************
الحذاء
ربّما يكون كلامي مدعاة للعجب؛إن قلت أن أولى ذكرياتي تبدأ بالحذاء!...
قد يتذكر الكثيرون الحادثة الأولى أو الذكرى الأولى في حياتهم، إلاّ أنني لم أسمع البتة من أحد، أنه إستطاع أن يتذكر بالتمام وبدقة أولى ذكريات حياته.
أحياناً وأنت تفكّر في مجرى حياتك؛تتذكر مجموعة حوادث تعود كل واحدة إلى فترة خاصة من عمرك ..بعضها ليس قديماً جداً، بل يعود إلى السنوات الثلاث- الأربع الماضية، وبعضها الآخر أقدم من ذلك، وإذا إستغرقت في التفكير، وتمعنت، وعدت القهقرى أكثر؛ستجد حوادث أخرى تتلوها...؛فارجع إلى الوراء ...إرجع..إرجع...ستصل فجأة إلى حد، تصل إلى حائط، حيث تتيقّن من أنك لن تتذكر أيّ شيء آخر مابعده...أجل ستصل إلى فترة أو حادثة أو لحظة، لاتتذكر إن كنت موجوداً من قبل ..لاتتذكر إن كنت قد عشت ماقبلها ...جليّ أنك كنت موجوداً بالفعل وعشت قبل تلك اللحظة، لكن دماغك لايحتوي أيّ شيء ممّا قبلها ...إن أول شيء يحمله دماغك، أو لنقل آخر شيء، قد تصله إن عدت القهقرى، حتى لو لم يكن شيئاً عجيباً، بل ولا يبتديء من صباح يوم محدد...ومع ذلك أعتقدأنه سيكون ذا رائحة ونكهة ولذة خاصة وحلوة...وأنا بدوري أتذكر الآن حشداً من أحداث ووقائع طفولتي، إلاّ أن أقدمها يتعلق بالحذاء!فقد إشتروا لي زوج حذاء أحمر وألبسوني إيّاه، وقالوا:- هيّا أركض ...ولا أتذكّر الآن هل ركضت أم لا..أجل لاأتذكر أكثر من ذلك ...لكن لأقل أيضاً كلّما تتراء تلك الواقعة أمام عيني؛لاأشهد المحيطين بي فحسب، بل وأشهد نفسي أيضاً؛كأنما شهدت الواقعة بعينيً امريء آخر!
إن مسألة الحذاء ذات أهمّية بالغة..ربـّما ثمة من يمكنه العيش بدون حذاء، لكنّما الأمر ليس هيّناً؛فكلنا بحاجة ماسّة إلى الحذاء؛فللحذاء في الحقيقة دور مهم جداً في الحياة ... غير أن العجب العجاب هو أن الناس ينظرون إليه باستعلاء؛فقد تلقى أحدهم يقول مستخفّاً بشخص :- من يكون مثل هذا الحذاء؟! لا أحسبه حتى فردة حذاء! أضعه تحت حذائي! أدوسه بحذائي! إلَْـبـَسْـه، لا تعر له أي اهتمام !
والمزيد من هذه العبارات!وطالما ينعتون الجاهل بالحافي، وغالباً مايقولون عندنا:- (العرب الحفاة!) عند الحديث عن العرب؛ربما لأن عرب البوادي ماكانوا يلبسون الأحذية، وإلاّ فهم الآن ليسوا بحفاة، بل ما أكثر أحذيتهم وما أجود أكثرها!
يقيناً إنّ كلّ واحد منا يتذكّر حشداً من الحوادث والوقائع المتعلقة بالأحذية ..وأنا الآن لا اتذكر كم زوجاً من الأحذية إستهلكت، فهل ثمة من يتذكر شيئاً كهذا ؟ولم لا؟ هنالك الكثيرون يتذكرون انهم قد لبسوا كذا حذاءً في كذا يوم، قبل عشر أو إثنتي عشرة سنة، ولا تستبعد الأمر؛فأنا بالذات أتذكر وقائع من هذا القبيل!
في صيف العام الماضي ..لا ليس العام الماضي؛فقد أضحى ما قبل الماضي، كنا نشاهد فلماً رائعاً على شاشة التلفزيزن.كان الفلم عن حذاء، ولا أكتمكم سرّاً؛إذ قلّما يقدم تلفزيون هذا البلد فلماً رائعا !إلاّ أنني حينما شاهدت ذلك الحذاء، لا، لأقل فلم الحذاء؛تذكرت العديد من الأشياء العجيبة.كانت قصة الفلم عن طفل إيراني مهووس بالحذاء، ولعبة الأحذية!إذ كان ينام ويصحو مأخوذاً بخيال الأحذية، بل ويعيش بخيال الأحذية!لقدكان قوندره باز (متقندراً)باللغة الكردية!
قبل أربع سنوات كنت قد حللت تواً في هامبورك.كان لي زوج حذاء عالي الكعب، كنت قد حصلت عليه في بيروت من قبل؛حيث تبادلنا الأحذية أنا وقائد شيوعي؛فقفد أعطاني حذاءه العالي الكعب وأعطيته حذائي الضيّق على قدمي..وإذا بحذاء القائد الشيوعي ذي الكعب العالي يصبح وبالاً عليّ عند وصولي الى هامبورك ..فقد تورّطت معه، وأصبحت في مأزق؛اذ ما كنت أخطو ثلاثين أو أربعين خطوة، إلاّ وكنت مضطراً أن أنحني وأسحب جوربيّ المنزلقين المتراكمين على أصابع قدميّ ..وهكذا دواليك.. وهلمّ بنا جرّاً ! قلت لنفسي قد تكون جواربي فضفاضة وملساء ؛فلأستبدلها بجوارب جديدة..إنّما هيهات ..دون جدوى...فالذنب لم يكن ذنب الجوارب البريئة! وانما ذنب حذاء القائد الشيوعي عالي الكعب!
في عام الإنتكاسة، كنا نسير من(جومان)نحو(ماوت)، (شاربازير)و(بينجوين) كنا نريد أن نقاوم ولا نستسلم. لم نكن كثيرين، وإنّما نحو خمسة عشر بيشمركَه.ويومها أيضاً ملأ الحذاء كبدي قيحاً وصديداً ! إذ كنت أحتذي زوجاً من الأحذية المطاطية ؛ فتفقعت قدماي ...كنا نسرع في المشي وبعجالة ومع ذلك كنت أفجر الفقاقيع في كل إستراحة.وكان الألم الشديد يكاد أن يجنني؛كلما هبت الريح الباردة ومسّت قدمي ...ولا يمكن أن يتصور ذلك الألم إلاّ من كابده...ولم يطل ذلك أكثر من إثني عشر يوماً، وإلاّ ماالذي كنت سأفعله فيما لو كنًا سنقاوم وقدماي على تلكم الحالة من الفقاقيع والجروح ؟!
ولكنّ الأمر كان مختلفاً في كردستان تركيا؛فقد كنا نحو أربعين بيشمركَه، وكنا نفتقر إلى الأحذية ألجديدة؛فكنت أستبدل حذائي في كل بضعة أيام، ولم تكن قدماي تتفقعان.وقد طلب مني(قاسم)أن نتابدل الأحذية.وكان يحتذي زوج حذاء مطاطي أبيض، ويتصوّر حذائي جديداً ومتيناً، فلم ألبّ ماإبتغى، وبعد إفتراقنا تأثرت كثيراً، وقلت ربما زعل مني ..إلاً أن حذائي إهترأ بعد يومين فقط، وعندها قلت حسناً فعلت.حين لم أعطه لقاسم، وإلاّ كان سيتورط معه. ..ثم لم ألتق قاسماً من بعد.وأظن أنهم قد طبعوا بعد سنة ملصقاً يضم صور الشهداء، وما أن لمحت صورة قاسم؛حتى تذكرت فوراً موضوع الحذاء.
على أيّ حال...ألوضع أفضل هناك الآن؛إذ يمكنك أن تحتذي زوج أحذية طوال العام.لكنّما الأمر هنا مختلف؛فللصيف حذاؤه وللربيع والخريف أحذيتهما !ولست أضيق ذرعاً هنا إلاّ بعجائزهم المتصابيات، المدللاّت اللواتي تجاوزن كل الحدود؛حيث يحتذين مع كلّ زيّ حذاءاً خاصاً!
ثم أن للزفاف حذاءه وللعزاء وللحداد حذاءه!
كان أستاذنا في مادة القواعد ذكيا ًوصموتا، وكان يجيد خمس لغات كبيرة وتسع لغات صغيرة، وكان كلما يدخل الصف شتاءً؛يحتذ زوج حذاء مطاطي أسود فوق حذائه الأصلي...ياله من طابق فوق طابق!! أمّا لماذا؟ فلست أدرك كنه ذلك حتى الآن...لربما يتعلق الأمر بالظروف الطبقية للبلد!
في مقدور المرء أن يستطرد في الحديث عن الأحذية، ويتطرق إلى المزيد من الأمور الأخرى أو يقرنها بها؛حتى لو كان الحذاء بدون قياطين، فمثلاً:الحذاء والغرام، الحذاء والسيكولوجيا، الحذاء والتاريخ، الحذاء وقواعد اللغة..!
وهنا أتذكر حين كنت في حدود السابعة عشر من عمري، كنت أحتذي زوجاً من الأحذية ذات الرقبة الطويلة، وكنت أتردد آنذاك على بيت عائلة من معارفنا لها أربع بنات هادئات ظاهريا، ولكنهن لعوبات ووقحات في الحقيقة ! وحدث ذات مرة أن حملت احداهن حذائي لتنحيه جانباً، إذا بها تقول :-ماهذا الحذاء الطويل الرقبة، الذي تحتذيه؟فكان أن خجلت إلى حدّ لم أجرؤ لاحقاً في اٍرتياد ذلك المكان! لقد خذلني ذاك الحذاء الأغبر وضيّع عليّ حتى فرصة التمتع برؤيتهن!لم تكن المسألة ذات أهمية تذكر؛ربما كان الحذاء أطول من قدمي بسنتيمتر أو سنتيمترين، لكنني فسّرت الأمور آنذاك بصورة أدق مما كان ينبغي...ولقد حدث غير مرّة أن إٍلتقيت من كان نداً ينافس الرجال الكبار؛في حين كان يحتذي حذاءاً صغيراً ومتواضعاً مدعاةً لخجلي بدلاً عنه!
ذات مّرة كنت في مقر جريدة حزب شيوعي، حيث قصدته زائراً أحد أصدقائي الشعراء؛فالتقيت ملاّ من قادتهم في كردستان، وكان حزبهم يومذاك متحالفاً مع نظام بغداد وتاركاً قفاه للجبل!متحججاً(والعهدة عليه)أن كردستان قد إٍستحالت وكراً للتهريب وسوقاً لبيع الأقمشة والأحذية والزيوت الإيرانيةوغيرها من البضائع ، التي كانت في منظور الشيوعيين رجعية! وهكذا سرعان ما ثار النقاش والجدال بيننا بعد تبادلنا التحية، وكنت أثناء النقاش أركّز نظري على الكفش الملّي(الحذاء الوطني الإيراني)الذي يحتذيه الملاّ! فقد كانت قدماه صغيرتين؛بحيث تستلفتان النظر وهما في الكفش الملّي، بل ولا تنسجمان البتة مع ضخامة رأس الملاّ الشيوعي وهيبته!!
*********************************************************